للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مباحث متعلقة بالمسجد النبوي الشريف]

بقي عندنا مباحث متعددة، وكلها عملية وضرورية بالنسبة للمسجد النبوي الشريف.

ونجمل هذا في الآتي: أولاً: المسجد النبوي طرأت عليه توسعات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي السؤال عن تلك التوسعات مع الحديث: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) فهل يا ترى! قوله: (مسجدي هذا) ينسحب إلى التوسعات التي جاءت بعده أو لا ينسحب؟ ثم (ألف صلاة) هل هي في عهده أو من بعدِه؟ وهل هي للفريضة والنافلة أو للفريضة فقط؟ فنأخذ أولاً: التوسعة، لما وسع عمر رضي الله تعالى عنه المسجد رأى بعض الصحابة يتحرج من الصلاة في توسعة عمر، فلاحظ ذلك، فقال: والله! إنه لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو امتد إلى ذي الحليفة -أبيار علي-.

إذاً: عمر يقسم بأن الزيادة التي زادها إنها من مسجد رسول الله، ولو جاءت الزيادة بعده، وقد جاءت من عثمان، ومن الوليد، ومن الخلفاء بعدهم، ومن العثمانيين، ومن الدولة السعودية.

فهي من مسجد رسول الله.

والواقع يصدق ذلك.

فلو امتد إلى ذي الحليفة، وجلس إنسان على الحائط الغربي من ذي الحليفة، وقيل له: أين أنت جالس؟ لقال: في مسجد رسول الله، إذاً: التوسعة مهما كانت فإنه ينسحب إليها فضل المسجد النبوي.

وسبب هذا الخلاف هو مدلول اللغة في كون اسم الإشارة اسم يعين مسماه كما يقول ابن مالك في الألفية: اسم الإشارة وضع بالوضع العام لموضوع له خاص.

فكلمة (هذا) تصدق على كل مفرد مذكر، فيقال: هذا إنسان، هذا جهاز، هذا عمود، هذا مصباح، هذا قلم، فكلمة (هذا) كلمة عامة تطلق على كل مفرد مذكر، ولكن مع كونها عامة هل تطلق على العموم في وقت واحد أو على فرد من أفراد العموم؟ الجواب: على فرد من أفراده، ولهذا قال بعض العلماء: اسم الإشارة هو: اسم يعين مسماه كالعلم، فقالوا في قوله: (مسجدي هذا) يكون خاصاً بما أشارت إليه الإشارة الحسية فيما يصلح لها؟ وقد ذكرنا في تتمة أضواء البيان عند قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:١٨] وذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي) و (مسجدي) في اللغة: مضاف ومضاف إليه، مسجد: مضاف، وياء المتكلم مضاف إليه، إذاً: مهما اتسع المسجد فهو مضاف إليه صلى الله عليه وسلم، والإضافة تكون للتخصيص كما تقول: باب الدار، وتكون للتمليك، كما تقول: كتاب زيد، إذاً: (مسجدي) مدلول الإضافة فيه يعادل مدلول اسم الإشارة.

ونأتي إلى قضية أخرى جاء فيها الحديث الصحيح: لما نزل قوله سبحانه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:١٠٨] تلاحى بعض الناس: هل هو مسجد قباء أو مسجد رسول الله؟ فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فأخذ كفاً من حصباء وضرب به الأرض وقال: (هو مسجدكم هذا) وأما مسجد قباء فما مصيره؟ مسجد قباء فيه النص: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:١٠٨] ولما نزلت ذهب رسول الله إلى بني عمرو بن عوف وهم أهل قباء فقال: (إن الله قد أثنى عليكم في الطهور، فماذا تفعلون؟ قالوا: إنا نتبع الحجارة الماء) أي: نستنتجي بالحجارة، ثم نغسل بالماء.

إذاً: الآية قطعاً نزلت في مسجد قباء، وعلى هذا فقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:١٠٨] هل الأولية هذه أولية زمانية أو أولية تفضيل؟ إن جئنا إلى الأولية الزمنية فمسجد قباء هو أول، وإن جئنا إلى أولية الأولولية فلا شك أن المسجد النبوي أولى، ثم جمع العلماء وقالوا: كلاهما أسس على التقوى من أول يوم، ولذا فإن الآية الكريمة تشمل كل مسجد في كل زمان وفي كل مكان إذا بني من أول يوم على التقوى، لا على الرياء ولا على السمعة ولا على مزاحمة لمسجد آخر، إنما بني لوجه الله سبحانه.

إذاً: الصلاة في الزيادة تتعادل مع الصلاة في البناء الأول، ولكن لا شك ولا ريب أن المكان الذي كان صلى الله عليه وسلم يصلي فيه هو أولى من المكان الذي جاء من بعده، وأفضلية الألف موجودة فيهما، ولكن الأولوية لا شك أنها في البناء الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا جاءت الخصيصة الخاصة بهذا وأنه روضة من رياض الجنة قال صلى الله عليه وسلم: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة) ، وقد أشرنا إلى اختصاصه بالعبادة في الصلاة والاعتكاف، وذكرنا قصة الرجل الجهني الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إني رجل كبير، ولا أستطيع أن أنزل كل ليلة إلى هذا المسجد، وإني -بحمد الله- أصلي بقومي، فمرني بليلة أنزل فيها إلى هذا المسجد ابتغاء ليلة القدر) فلم يقل له: صل حيثما كنت، ولم يقل له: ابق وصل مع قومك، ولكنه قال له: (انزل ليلة ثلاث وعشرين) ففي هذا إجازة بأن يأتي الإنسان إلى هذا المسجد من أي مكان كان للاعتكاف كما يأتي للصلاة.

وقد جاء اختصاصه أيضاً بالمجيء إليه لطلب العلم في حديث: (من راح إلى مسجدي لعلم يعلمه، أو يتعلمه، كان كمن غزا في سبيل الله) ولا توجد هذه الخصوصية في أي مكان في العالم، ولذا سمعنا من كثير من مشايخنا ومن زملائنا، وجربناه في أنفسنا: أن الله سبحانه يفتح على طالب العلم في هذا المسجد بما لا يفتح عليه في غيره، وهذا من خصائص المسجد النبوي الشريف.

وبقي في قوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) قضية كبرى، ونزاع طويل كما يقول ابن كثير، لا ينبغي الدخول فيها إلا إذا كان هناك وقت يتسع لبيانها، ثم التعليق عليها وإيضاح الراجح فيها، ومن أراد أن يقف عليها فعليه أن يرجع إلى الجزء الثامن من تتمة أضواء البيان، فهناك بحث مطول قريباً من خمسين صفحة في حكم شد الرحال إلى المدينة أو إلى المسجد النبوي للصلاة وللسلام على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.