[ما يحسن الدعاء به عند الاستسقاء]
قال المصنف: [وعن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا في الاستسقاء: (اللهم جَلّلْنا سحاباً كثيفاً ... ) ] .
الجلال: جمع جلالة، والجلالة: الثوب الذي يوضع على البُدْن حينما تساق هدياً إلى بيت الله، وتقول: فلان جلل فلاناً بالنعم.
أي: غطاه وغمره، فكذلك كانوا إذا ساقوا الهدي إلى بيت الله تكريماً وإمعاناً في القربة إلى الله، يزينون تلك البدن بنوع من الأقمشة الجديدة، فيجعلونها عليها تجميلاً لها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا أهدى إلى البيت كسا هديه من الجلال في أول خروجها، ثم إذا أراد أن يشعرها كشفها عنها، ثم بعد ذلك يلبسها إياها، ثم ينزعها حتى تدنو من مكة، فإذا دنت من مكة جللها وذهب بها إلى الموقف، ثم إذا رجع وأراد أن ينحرها، أخذ الجلالة عنها حتى لا يصيبها الدم، وتصدق بجلالها مع لحمها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم جللنا سحاباً) .
أي: ارزقنا سحاباً يكون عامّاً شاملاً كما تشمل الجلال بهيمة الأنعام من البدن.
وفيه إشارة لطيفة بأن تكون تلك السحابة من باب الجلال، أي: لطيفة نافعة؛ لأن الجلال لا تضر الإبل، فتحملها الإبل متزينة بها، فكذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم أولاً بطلب السحاب، وأن يكون شاملاً مغطياً عاماً كشمول الجلال لبهيمة الأنعام في البُدْن، والله أعلم.
وقوله: (سحاباً كثيفاً) السحاب يأتي خفيفاً، ويأتي كثيفاً متراكماً، والخفيف يسمى الكهام أو الجهام، وهي التي أمطرت ما فيها وأصبحت خفيفة، وتجد السحب الخفيفة سريعة المشي؛ لأنها خفيفة على الرياح، فتمضي سريعاً، أما السحاب المحمل بالماء فتجده بطيئاً في المشي؛ لأنه مثقل بالماء ومحمل به، فالكثيف المتراكم بعضه فوق بعض والمحمل بالماء بخلاف الكهام أو الجهام الذي أراق ماءه، أو لم يحتمل الماء.
وقوله: (قصيفا) .
القصيف: فعيل من القصف يقال لصوت قصف الرعد، فالقصيف: الصوت الشديد، كقصف المدافع والأصوات الشديدة، فهذا يدل على كثافة السحاب وغزارة المطر.
قال: (دلوقاً) .
الدلوق: فعول من (دلق) ، والعامة قد تقول: دُلق ماء الإناء.
بمعنى: أُفرغ ما فيه، وتقول: الماء اندلق، والكأس اندلقت، بمعنى انكفأت وسقط ما فيها، فـ (دلوقاً) ، معناها: غزير الماء.
ويقال: إبل دلوق، إذا كانت سريعة، أو: خيل دلوق، إذا كانت سريعة، وكذلك الإناء أو الكأس، فما أسرع خروج الماء منه فهو اندلاق.
قوله: (دلوقاً ضحوكاً) .
السحاب الضحوك هو الذي يكون فيه البرق، كأنه يتبسم، فهي أوصاف عجيبة جداً، من أنواع البلاغة، واستعمال اللطيف من العبارات، فيسمى أو يعبر عن ضوء البرق الذي يلمع بأنه ثغر آدمي يضحك.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً) .
(تمطرنا منه) كل ما تقدم صفات للسحاب، فإذا اكتملت تلك الصفات لهذا السحاب فكان مجللا، كثيفاً، قصوفا، ً دلوقاً، ضحوكاً قيل: ماذا ينزل من هذا كله؟ مخافة أن تكون هذه الصفات فيها من جرم الماء وكثرته ما يضر، فيكون الدعاء: ابعث لنا سحاباً هذه صفاته، وتمطرنا منه رذاذاً.
وفي فقه اللغة أن الصوت يوحي بالمعنى، ومن ذلك قول عباد الصيمري من علماء اللغة: إن بين اللفظ ومعناه رائحة شمها أولوا الألباب.
بمعنى أن الفطن صاحب الفطرة الصحيحة إذا سمع لفظة فهم معناها من جرس صوتها، واستدل بذلك على أسماء الأصوات في اللغة، وبعض المصادر تدل على معانيها ولو لم تعلمها من القاموس، فتسمع -مثلاً- كلمة (غليان) ، و (جريان) ، فهذا النطق فيه حركات متوالية، ففي (جَرَيَ) ثلاث حركات متوالية بالفتح، فـ (جريان) ، لا يدل على الجلوس، وإنما يدل على الانطلاق، و (غليان) ، تدل على أن الماء تحرك.
وحين تقول: (حفيف الشجر) فكلمة (حفيف) ، توحى بأن شجرة تحركها الرياح وراءك، ولما تسمع (زقزقة العصافير) وتكررها بقولك: (زق زق زق) فكأن عصفوراً في القفص وراءك.
فقالوا: إن أسماء الأصوات مأخوذ من معانيها ما يدل عليها بجرسها، فهنا لفظة: (رذاذاً) كأنها تعطي المعنى، أي: خفيف خفيف.
قال: (تمطرنا منه رذاذاً قِطْقِطْاً) .
قوله: (قِطْقِطْاً) هو كقولك: ليقطر نقطة نقطة، فليس هو صب القرب حتى تغرق الدنيا، ويكسر الشجر وتهدم البيوت، وإنما شيئاً فشيئاً، فكأنه شيء غير متواصل، فهو خطوة خطوة، ومقاطع منفصلة.
قال: (قِطْقِطْاً سَجْلاً) .
قوله: (سَجْلاً) منه السِجل، والذَنُوب، وهي أنواع من أواني المياه.