[حلق النبي صلى الله عليه وسلم شعره في حجة الوداع وبعض ما يتعلق بذلك]
والرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لما نحر بعض الهدي وأناب علياً في نحر الباقي، ودعا الحلاق ناوله أولاً الشق الأيمن فحلقه، ثم قال: خذ هذا الشعر وقسمه على الناس -على الحاضرين- ثم ناوله الشق الأيسر فحلقه، فقال: خذه أنت، وهنا بعض الناس قد يفكر ويسأل: لماذا يقسم الشعر عليهم؟ الجواب: لأن هناك مصلحتين: المصلحة الأولى: إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقى على الأرض؛ لأنه إذا ما حصل إنسان على شعرات منه فإنه سيطويها ويحتفظ بها في أعز مكان عنده، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من حصل على شيء من شعرات رسول الله يحتفظ بها، فـ خالد بن الوليد كان في قلنسوته التي يضعها على رأسه شعرات من شعر رسول الله، وأم سلمة كان عندها شعرات وضعتها في جلجل فضة، وكانت إذا جاء المحموم إليها ماصتها في الماء وسقته إياه فيعافيه الله، هذه مصلحة أولى وهي إكرام شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهان ويلقى على الأرض.
المصلحة الثانية: التبرك، فقد كانوا يتبركون ببصاقه ومخاطه صلى الله عليه وسلم كما جاء في صلح الحديبية حينما قال عروة بن مسعود الثقفي:(والله! لقد دخلت على كسرى في ملكه وقيصر في ملكه، فما رأيت قوماً يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد لمحمد، والله! ما تفل تفالة ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم يدلك بها وجهه، ولا توضأ وضوءاً إلا اقتتلوا على مائه ليتمسحوا به) وأم أيمن لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم، قال لها:(لا توجعك بطنك أبداً) ، وابن الزبير لما قال له صلى الله عليه وسلم:(خذ هذا -أي: دم الحجامة- وغيبه عن الناس في مكان لا يراه أحد، فذهب بعيداً وشربه، ولما رجع قال له: ماذا فعلت؟ قال: شربته، قال: ويل للناس منك، وويل لك من الناس) أي: لأثر دم رسول الله الذي في جوفه.
وكانوا يأتون بالأطفال إليه ليحنكهم تلمساً لبركة يده صلى الله عليه وسلم، وأبو قتادة لما خرجت عينه في أحد ردها ومسح عليها بكفه فكانت أحسن عينيه، وأشياء كثيرة في هذا الموضع عملها أصحابها التماساً لبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: علم الله أننا لو أدركنا التراب الذي وطئه لاكتحلنا به في أعيننا، ولكن هل يتعدى هذا إلى غيره؟ الجواب: نقول: لا، بل هذا خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لم نجد أصحابه فعلوا ذلك مع غيره، إذاً: هذه الأشياء قاصرة عليه؛ لأنه هو الذي اختص بمثل هذه الأمور.
وبهذا يتبين أن قوله:(اللهم ارحم المحلقين) أي: الدعاء للمحلقين كان في صلح الحديبية.