للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مناسبة ورود هذا الحديث]

قوله: (إن أمتي يأتون) مناسبة هذا الحديث، ومناسبة مجيء (إن) المؤكدة في أوله ما ذكره مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة ومعه بعض أصحابه، فقال: (السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ... ) .

يقولون: (إن شاء الله) هنا: ليست للشك ولا للتردد، ولكن للتبرك أو للتأكيد، أو التماس المشيئة بأن اللحاق بهم يكون بهذا البقيع الذي خرج إليه، ويكون هذا مأخوذ من مجموع النصوص التي ذكرها صلى الله عليه وسلم في رغبته في أن يُدفن في البقيع، أو أن يُدفن بالمدينة، أو نحو ذلك.

كما جاء في الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم شهد جنازة، فجلس عندها ونظر في القبر قبل أن تُدخل فيه الجنازة، فجاء رجل ونظر فقال: (بئس مضجع الرجل فقال صلى الله عليه وسلم: بئس ما قلتَ قال: يا رسول الله! أردتُ الجهاد في سبيل الله -أي: كون الإنسان يعيش ثم يموت كما تموت بهيمة الأنعام ويُدفن غير محبوب عندي، بل أحَبُّ إليَّ لهذا الرجل أن يذهب ويقاتل ويُستشهد ويدفن في أرض المعركة- فقال صلى الله عليه وسلم: نعم الجهاد ولكن ما من بلد أحب إليَّ أن يكون قبري بها منها) : أي: من المدينة.

وهنا يقولون: قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شاء الله بكم لاحقون) والمراد به: في هذه التربة.

فالمشيئة ليست للتردد، أو هي على عموم قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:٢٣-٢٤] .

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أني رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله! ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.

أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون من بعدي فيؤمنون بي، وددتُ أني رأيتهم، وأنا فَرَطُهم على الحوض، قالوا: كيف تعرف من يأتي بعدك ولم تره) أي: كيف تعرف من يأتي بعدك وأنت تقول: (وأنا فَرَطُهم على الحوض) ، والفَرَط: الذي ينفرط من القوم، مثل العِقد ينقطع منه الخيط، وينفرد الحبل ويسبق، وفَرَطُ القوم: من ينفرد عنهم، ويسبقهم إلى الماء ليهيئ لهم الماء من البئر قبل أن يصلوا.

وهذا سؤال استغراب، لا سؤال استنكار ولا استبعاد، ولكن يُشم منه رائحة الاستيضاح.

فقال هنا: (إن أمتي) .

وهناك لفظ آخر يذكره أيضاً مالك أنه قال: (أرأيتم لو أن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في وسط خيل بهم دهم -والفرس الأدهم: هو الأسود الذي ليس مع سواده لون آخر، والبَهْمُ: يطلق على ولد الغنم الصغير، وسمي بَهماً للإبهام؛ لأنه لا يُفصح، والبَهْمُ: الخيل ذات اللون أيَّاً كان لا يخالطه لون آخر، وليس خاصاً بالسواد- قال: أيعرف خيله؟ قالوا: نعم.

قال: فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض) .

فهنا تساءلوا: (ألسنا بإخوانك؟ قال: لا.

أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدي، وددتُ لو أني رأيتهم، و) ابن عبد البر رحمه الله يسوق في التمهيد حوالي ثلاثين صفحة حول هذا المعنى.

ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا السياق: (يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يودُّ أحدهم لو رآني بماله وأهله) وهذه -والله- صحيحة، فكل مسلم الآن يود لو أنه لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤية حقيقية بعينيه شخصية رسول الله، ولو يفدي ذلك بأهله وماله.

وفي رواية أخرى: (أيُّ الناس خير -أو أيُّ إيمان الخلق أفضل-؟ قالوا: الملائكة قال: وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والأمر ينزل فوقهم؟! قالوا: الأنبياء، قال: غيرهم.

وحُقَّ لهم، وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟! قالوا: نحن، لا.

قال: غيركم.

وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟! خير الناس إيماناً قومٌ يأتون بعدي يرون أوراقاً مكتوبة يقرأونها فيعملون بها) .

وهناك روايات وآثار وأخبار في هذا المعنى، وقد ذكر ابن عبد البر في التمهيد في الجزء العشرين ما يقرب من الثلاثين صفحة في مبحث هذا الحديث.

وعلى هذا فحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (إن أمتي يأتون يوم القيامة) لم يأتِ ابتداءً، ولكنه في معرض سياق خبر به أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتساءلوا لاستغرابهم فجاءهم هذا الجواب مؤكَّداً بـ (إنَّ) فقال: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين) أي: فأعرفُهم بهذه العلامة.

وفي تتمة الحديث: (ليُذادَنَّ رجالٌ من أمتي عن حوضي -أي: يُدفعون ويُحجَبون دون الحوض- فأنادي: أمتي أمتي -أو أنادي: هَلُمَّ هَلُمَّ- فيقال لي -أي: تقول الملائكة-: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول: سحقاً سحقاً) .

وهذا يذكره ابن كثير أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:٨] .

لأنه في ذلك اليوم يطفأ نور المنافقين وهم في الصراط، كما قال الله عنهم: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:١٣] ، فخدعهم الله سبحانه بهذا النور؛ لأنهم خادعوه في الدنيا، كما قال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ} [البقرة:٩] ، وقال تعالى عنهم: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:١٤٢] .

والمخادَعة من المنافقين هي: أنهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، والمخادَعة هنا أنهم بإظهارهم هذا الدين خلاف ما أخفوا أمِنوا على دمائهم وأنفسهم وأعراضهم، وتزوجوا من المسلمين، وأخذوا في الغنائم حصصاً، فعومِلوا معاملةَ المسلمين، والله أجراها عليهم، مع أنهم في داخلهم لا يستحقون شيئاً من ذلك لكفرهم، فالله خدعهم، فتركهم على ما هم عليه في خداعهم حتى إذا كان يوم القيامة وخرج الناس من قبورهم، وبُعِث المنافقون مع المؤمنين، والجميع غرٌّ محجلون المنافق مع المؤمن الصادق، ومشوا في طريقهم كل بغرته وتحجيله فإذا دنوا من الحوض هناك يكون الحجز، فتأتي ملائكة وترد أولئك الناس، فلا يصلون إلى الحوض، وحينما يُردون تُطفأ أنوارهم، ولذا يقول تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي: تبقى على بياضها.

وقال تعالى: {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:١٠٦] أي: يُسلب نورُها، فحينئذٍ يقفون مكانهم ليس عندهم نور يمشون به، فينادون المؤمنين: {انْظُرُونَا} [الحديد:١٣] .

وقولهم: (انظرونا) هو إما من النظر، وإما من الانتظار، فإن كان من النظر فالمعنى التفتوا وراءكم حتى تضيئوا لنا بنور وجوهكم الطريق.

وإن كان من الانتظار فالمعنى: انتظرونا لندرك المشي معكم في ضوء أنواركم.

قال تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} [الحديد:١٣] ، فحينئذٍ المؤمنون تقدموا بأنوارهم، والمنافقون -عياذاً بالله- رجعوا وانطفأت أنوارهم، وبقي المؤمنون على حذر يخافون أن تأتي عقبة أخرى تكون فيها تصفية ثانية، فيدعون كما قال تعالى عنهم: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:٨] أي: ابقِ لنا هذا النور يا رب، فأنت أطفأته عن أقوام، ونحن نخشى أن تكون هناك عملية تصفية أخرى، ويُطفأ عن بعضنا الأنوار، فيسألون الله ويدعونه بإلحاح قائلين: {أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:٨] .

فالحديث -كما أشرت- آفاقه واسعة، ومواقفه عديدة، فلو أن إنساناً تتبع وأخذ كل جزئية منه بحديث متوسع متوفر لخرج من الحديث برسالة كاملة.

ونحن الآن في الوقت الحاضر -بصرف النظر عن فعل أبي هريرة في كونه يطيل الغرة، إذ علينا بالسنة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- نستطيع أن نسلي أنفسنا بأن هذه بشرى لنا، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم يمتدح أقواماً يأتون بعده ولم يروه، ويؤمنون به على غيب يرونه في أوراق مكتوبة.

وهذا هو القرآن الكريم بين أيدينا حفظه الله يقرؤه المسلم، ويؤمن بحميع ما فيه، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (وددتُ لو أني رأيتهم) ، ويشهد لهم بأن الواحد منهم يود لو ضحى بأهله وماله ليراه صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الأوراق التحذير من النفاق والابتداع، ومن التغيير والتبديل، حتى لا يُذاد عن ذلك الحوض الكريم، وهو الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.