[الانتقال من المزدلفة إلى المشعر الحرام والدعاء عند المشعر]
وقوله: (صلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) .
يبين بقوله: (ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام) أن نزوله كان في غير المشعر الحرام؛ لأنه لما استيقظ وصلى لم تكن صلاته في المشعر الحرام، وإنما ركب وأتى إلى المشعر الحرام بعد الصلاة.
إذاً: المزدلفة كلها موقف، والمشعر الحرام جزء منه في طرف منها، وهو كان عبارة عن جبيل صغير وبني بجانبه مسجد، ثم وسع المسجد وهو المعروف الآن بمسجد المزدلفة.
قوله: (فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله) .
يقولون هنا: إنه صلى الله عليه وسلم وقف عند المشعر الحرام ودعا الله طويلاً، ويقول بعض العلماء: إن في بعض الروايات: أنه كان رافعاً يديه وضاماً لها إلى صدره في صورة المسكين الذي يطلب إحساناً، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم لربه في سؤاله وحاجته، وهل كان يسأل لنفسه أو كان يجتهد في سؤاله للأمة، كما كان في عرفات يجتهد ويسأل الله تعالى للأمة أن يغفر لها، وأن لا يجعل بأسها بينها، وأن لا يهلكها بكذا؟ الجواب: أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون للأمة ولنفسه معهم.
وبعض الناس ربما يأتي إلى المزدلفة ويذهب عنها وهو لا يعلم أين المشعر الحرام ولم يذهب إليه، فما حكم حجه هذا؟ الجواب: وقع الإجماع على أنه لا شيء عليه، فإن تيسر له الذهاب إليه وعلم مكانه فأتاه ودعا عنده فهذا أفضل؛ لأن الله سبحانه يقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨] ، وهذا مكان -كما يقولون- تستجاب فيه الدعوة، والرسول اجتهد بدعاء ربه فيه، وإن لم يتيسر للإنسان الذهاب إليه، أو كان هناك زحام شديد لم يستطع بسببه المكث فيه، فمر عليه ووقف بإزائه ودعا فلا مانع، وإذا بقي في مكان نزوله بعيداً عن المشعر الحرام كما نزل رسول الله، وصلى مكانه أو مع الإمام أو مع جماعة من جماعته فليرفع يديه وليدع الله بقدر ما يتيسر له ويستطيع.
قوله: (فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً) .
لم يزل واقفاً عند المشعر الحرام يسأل ربه حتى أسفر، والإسفار هو: من السفر وهو النور، ولذا سمي السفر سفراً؛ لأنه ينير ويكشف عن حقيقة الصاحب في السفر، فأنت إذا كان لك صاحب في الحضر وفي الرخاء تجد منه العسل؛ لأنه ليس هناك مشقة، وليس هناك إيثار على النفس، وليس هناك حاجة إلى أن يمده إليك، وأما عند الأسفار فهناك التعب، وهناك الظنة بما في اليدين، وهناك الشح بما يملك الإنسان، وهناك الكسل وعدم المبادرة إلى المساعدة، فتظهر حقائق الرجال في السفر، ولهذا كان عمر رضي الله تعالى عنه إذا جاء إنسان ليزكي إنساناً عنده، وتزكية الشهود لم تحصل إلا في زمن عمر، وقبلها كان الشهود يُقبلون بدون تزكية.
فجاء رجل إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! أدرك الناس، فإن شهادة الزور قد تفشت في العراق، فأمر أن لا تقبل شهادة مجهول إلا بشاهدين يزكيان هذا الشاهد أنه صدوق وعدل، فكان عمر إذا جاءه إنسان ليزكي إنساناً يقول له: هل تعرفه؟ فيقول: نعم، فيقول له: هل بينك وبينه رحم؟ فيقول: لا، فيقول له: هل بينك وبينه معاملة في الدرهم والدينار؟ فيقول: لا، فيقول: هل سافرت معه؟ فيقول: لا، فيقول له: اذهب فأنت لا تعرفه.
لأن هذه هي الحالات التي تكون فيها المخالطة عن قرب، وتكون فيها مشاحة النفس؛ لأن الحياة بين الأرحام يحصل فيها شدة ويحصل فيها ضيق، ويحصل فيها غضب، ويحصل فيها رضا، كما هي شئون حياة البشر، فتعرف حقيقة الإنسان عندها، ويعرف إن كان شحيح النفس أو واسع الصدر.
وكذلك المعاملة بالدهم والدينار، يعرف عندها الإنسان هل هو يحرص على تحصيله من أي سبيل أو أنه يتعفف ويتورع عن الذي فيه شبهة؟! وكذلك السفر يعرف عنده الإنسان هل هو يحافظ على الصلاة في السفر؟ وهل يؤدي الأمانة في السفر؟ وهل يساعد رفيقه في مشاق السفر؟ وهل وهل.
إلخ.
قوله: (حتى أسفر) يعني: ظهر ضوء النهار من الليل جداً، يعني: قبيل طلوع الشمس، وربما بدأت إشعاعاتها البعيدة تحت الأفق في جهة الشرق.