للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[إجازة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بأخذ الهدية]

ثم قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أبعثك إلى اليمن لعلك تصيب شيئاً.

أي: بصفته عاملاً يصيب شيئاً يرد عليه بدل أمواله التي خرجت من يده.

والعجيب هنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح له أخذ الهدية، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هدايا العمال غلول) ؛ لأنه لا يهدي للعامل إلا مخافةً منه أو طمعاً فيه، وكذلك العمال يهدون إليهم ليخففوا عنهم فيما يجب عليهم من عمال الزكاة، ولما فتح الله على المسلمين خيبر طلبوا من رسول الله أن يبقيهم فيها، قالوا: نحن أعلم بأمور النخيل، دعها في أيدينا نخدمك فيها.

قال: ندعكم إلى ما شاء الله.

وكان الاتفاق أن يعملوا فيها بالنصف: نصف الثمرة لليهود، والنصف الآخر للمسلمين، والعادة في مثل ذلك بالنسبة للزكاة أنه يخرج العامل ليخرص إذا بدأ نضج الثمرة وأمنت العاهة، أي: احمرت واصفرت الثمرة، فيأتي العامل فيطوف في النخيل فيقدر: هذه فيها وسق، وهذه فيها وسقين، وهذه فيها ثلاثة، وهذه فيها نصف.

حتى يحصي ما في البستان من مظنة الثمرة التي تأتي من مجموع هذا النخل، فإذا وجد -مثلاً- أن مجموع ما في هذا البستان ألف وسق، فقد كان يوصيهم صلى الله عليه وسلم أن يسقطوا الثلث أو الربع، لما يرد من ضيف، ولما تأكل الطير، ولما تسقط الريح، وهذا كله لا يكلف صاحب المال بأن يخرج زكاته وهو قد أتلف بعضه.

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة ليخرص على أهل خيبر، ليلتزموا في النهاية بعد تجفيف التمر بما وجب عليهم، ويقدمونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءهم ماذا فعلوا؟ جمع اليهود من حلي نسائهم مجموعة، وقدموها لـ عبد الله وقالوا: خفف عنا -يعني: إن كان عندنا خمسة آلاف اجعلها ثلاثة آلاف- فقال لهم كلمته المشهورة: (يا إخوة الخنازير! والله لقد جئتكم من عند أحب خلق الله إلي، ولأنتم أبغض الناس عندي، ووالله ما حبي لرسول الله ولا بغضي لكم بحاملي على أن أجحف عليكم، وهذا المال رشوة وسحت، وهو محرم) .

فقالوا: يا عبد الله! بهذا قامت السماوات والأرض.

أي: بالأمانة ورفض الرشوة، وأقسم ألا يحيف عليهم بسبب البغض، ولا أن يحابي رسول الله بسبب المحبة، وقال: إني خارص وأنتم بالخيام، إما أن تلتزموا ما وجب عليكم، وإما أن ترفعوا أيديكم وأنا ملتزم لكم بما هو لكم من هذا الخرص، فقبلوا وخرص والتزموا.

الذي يهمنا: أن هدايا العمال رشوة وسحت، والرسول أباح لـ معاذ أن يقبل الهدية، وخص معاذاً لأنه صلى الله عليه وسلم علم من معاذ أن نفسه ودينه وأمانته فوق مستوى المحاباة والرشوة والسحت، فإذا ما جاءته هدية لم يقبلها في مقابل حق يتنازل عنه أو في مقابل محاباة في دين الله، فأباحها له وكان بينه وبين أبي بكر وعمر مقالات في هذا الموضوع.