[حكم وصول العبادات البدنية إلى الميت]
العبادات البدنية تبدأ من الذكر باللسان: الدعاء، الاستغفار، تلاوة القرآن، البدن: صلاة، صيام، فجاءوا في الأذكار والدعاء وقالوا: لا شك أن الدعاء يصل الميت، وقد وجدت للإمام ابن تيمية نحواً من المائة صفحة في هذا الباب يدلل على وصول عمل الحي للميت بدنياً كان أو مالياً، والدعاء -يقول- أكبر شاهد، حيث إنه يؤتى بالميت ونقوم فنصلي عليه، وفيها قراءة الفاتحة، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ندعو للميت، ولولا أن الميت ينتفع بدعاء المصلين له لما كان له فائدة {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} [الحشر:١٠] إخواننا من؟ {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:١٠] يدعون الله بالمغفرة لهم ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، فهذا نص القرآن الكريم بأنهم يدعون لأنفسهم بالمغفرة، ولمن سبقهم من إخوانهم بالإيمان، أي: الذين ماتوا قبلهم، فالدعاء لا شك فيه ولا غبار.
أما الصلاة فجاء الحديث: (كان لي أبوان أبرهما في حياتهما فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فذكر صلى الله عليه وسلم: تتصدق عنهم، وتدعو لهم مع دعائك، وتصلي لهم مع صلاتك) فقالوا: هذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنه يصلي لوالديه مع صلاته.
ونجد في الحج أن يُحج عن الميت، وبعد الطواف هناك صلاة ركعتي الطواف، فهذا طواف عن الميت، وهذه الصلاة عن الميت، نقول: هو الذي طاف، ليس هناك مانع، لكن باسم غيره.
أما الصوم، فقد جاء في الحديث الصحيح: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) وعليه الأئمة الثلاثة ما عدا المالكية يقولون: إن كان الصوم نذراً فإنه هو الذي أوجبه على نفسه فيقضيه، أما إذا كان صوم رمضان فالله هو الذي كلفه وهو الذي أماته فليس عليه قضاء، لكن الحديث عام وصريح: من مات وعليه صوم} بالتنكير دون تعيين نوع من أنواع الصيام.
والحج جاء فيه: (أحج عن أبي؟ قال: بلى) (أمي ماتت أحج عنها؟ قال: نعم ... ) والحج عن الغير أمر مشهور عند الجميع.
لكن بقي الخلاف والنزاع الطويل في قراءة القرآن، فمن يرجع إلى الإمام ابن تيمية رحمه الله في المجموع وفي كتاب الجنائز يجده رحمه الله يرتب الموضوع فيقول: نحن اتفقنا على أن الميت ينتفع بدعاء الحي: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وهذا متفق عليه، ما معنى: اللهم ارحمه؟ معناه: يا رب! أنا ليس عندي شيء، ولكن أتوجه إليك، وأسألك من عندك رحمة للميت، فإذا كان الله سبحانه يرحم الميت برحمة من عنده بسؤالك أنت إياه، فرحمة الله نزلت على الميت فضلاً من الله وليس لك في ذلك شيء إلا المسألة، فالرحمة من الله لعبده ماذا فعلت أنت؟ دعوت.
يقول: نأتي إلى القراءة حينما تقرأ الفاتحة يس آية من كتاب الله، لك بكل حرف عشر حسنات، فأنت عملت وبعملك وعدك الله الأجر، فأصبح لك -بمقتضى وعد الله وإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم- بكل حرف عشر حسنات تكتب في صحيفة أعمالك، فأنت تقول: يا رب! هذا الذي عملت، وهذا الذي وعدتني وهو حق لي، أسألك أن تعطيه لفلان، فإذا كان الدعاء وهو طلب الرحمة من الله وأنت لا تملك منها شيء يصل إلى الميت، فكيف بالحسنات التي استحققتها أو التي وعدت بها وتكتب في صحيفتك فأنت تقول: أنت وعدتني به وأنا أتبرع به للميت، أيهما أولى بالقبول الشيء الذي كان عن عمل منك، أو الشيء الذي هو مجرد سؤالك رحمة من الله؟ الذي كان عن عمل منك؛ لأنك عملته، وبوعد من الله كنت تستحقه، ويكتب لك في صحيفة أعمالك، فهو موجود عن سبب منك أنت.
وبهذا المنطق يسترسل رحمه الله في إثبات انتفاع الميت بعمل الحي.
ثم نحن نقول: هل نحن نحجر فضل الله؟ هل نمنع رحمة الله عن عباده؟ فإنك إذا ما عملت عملاً وطلبت من الله أن يجعل ثوابه لوالديك أو لمن شئت من المسلمين، فإنه يكون صدقة جارية ذا ثمرة تدوم بعدك، مثل بناء مدرسة، أو مسكن للمساكين، أو حفرت قناة، أو بنيت جسراً، أو مهدت طريقاً، أو بنيت مسجداً، أو ورثت مصحفاً، فأنت بصلاحك وبفعلك الخير لهذا الرجل بقي من أثر عملك عنده ما جعله يدعو الله لك، إذن لك أثر في هذا العمل؛ لأنه لا يوجد أحد يقرأ لك قرآناً ويهب ثوابه إليك وبينك وبينه عداوة، بل لابد أنه كانت هناك صلة، كان لك عمل من الخير يجعله باقٍ عنده يعطفه عليك حتى يهب لك من عمله الخير.
إذاً: الصدقة الجارية باقية.
وكذلك عمل الولد: (ولد صالح يدعو له) (ولد الرجل خير كسب أبيه) فإذا دعا الولد أو عمل الولد صالحاً فإنه داخل لا يمنعه.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:٣٩] فقد أجاب ابن تيمية رحمه الله حيث قال: الآية تقول: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ} [النجم:٣٩] أي: من نفسه إلا ما سعى هو به، فالآية ما منعت أن يكون له من سعي غيره، نعم.
سعيه انقطع لحديث: (إذا مات العبد انقطع عمله) لكن إذا انقطع عمله فإنه لا يمنع أن يستمر له عمل من غيره، إذن الميت انقطع عمله، لكن هذا لا يمنع أن يأتيه من عمل الغير خير له.
وأرجو من كل طالب علم أن يرجع من هذا الموضوع إلى هذا المرجع المجموع ليرى الأسلوب والمنهج والهدوء، وعدم الخصومة، وعدم النزاع، وليرى أسلوب السلف في معالجة الأمور، وكيف كانوا يقيمون الأدلة عليها، وأرى إن شاء الله أنه ما من طالب علم يقرأ هذا البحث إلا سيجد الخير الكثير، وبالله تعالى التوفيق.