[مشروعية الإسراع بالجنازة]
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) متفق عليه.
والإسراع هنا يحتمل أمرين: سرعة التجهيز، فإذا كان هناك كفن عادي، فلا حاجة إلى أن نؤخره، إلى أن نحضر كفناً فاخراً، وإذا وجد من المسلمين من يؤدي الصلاة فلا حاجة إلى أن نؤخر إلى كثرة العدد، إلا أن يكون للميت من ذوي أقاربه -كأبنائه، وإخوانه، ووالديه- من يريد أن يقدم وكان غائباً ليراه ويشيعه، فلا مانع ما لم يتضرر الميت بالتأخير، أي: يشرع الانتظار بالجنازة لحين قدوم الغائب من ذويه وذوي رحمه ما لم يكن الوقت صيفاً كما هو الحال في الجزيرة، أو يتوقع حصول ضرر على الجنازة، بأن تكون قد توفيت من أول الليل مثلاً، فإنه ينتظر به إلى الصباح، على ما سيأتي في باب النهي عن الدفن ليلاً، لما قد يقع فيه من تقصير.
وهنا مسألة التقسيم الذي يقوله الأصوليون، يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة) كلمة (أسرعوا) تحتمل كما أسلفنا: سرعة تجهيزه، ويحتمل الإسراع في المشي به عند حمله، ولكن المعنى الثاني أرجح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (تقدمونها إليه) هذه مشتركة، وقوله (شرٌ تضعونه عن رقابكم) والشر الذي نضعه عن الرقاب هو ساعة الحمل حينما نحمله.
إذاً: السنة في تشييع الجنائز الإسراع بها، وكما يقولون: إكرام الميت دفنه وستره، كما أنهم يقولون أيضاً: إذا مات نهاراً لا ينبغي أن يبيتوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيت الميت وسط أهله؛ لأنهم يستوحشونه، أو كان ميتهم أخاهم أو أباهم أو ولدهم فإنهم يستأنسون بحضوره ويؤانسهم، ولكن بعد الموت ترى طفله الصغير يخاف أن يدخل عنده، ترى الشخص الكبير قد يخاف أن يدخل عليه، فما ينبغي أن يبيت الميت إلا لحاجة أو لضرورة.
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم حال الميت، إما أن يكون صالحاً، فإنه يحب أن يتقدم للصالح، وإما أن يكون عكس ذلك، فلا ينبغي أن نحمل على رقابنا غير الصالح، فلنضعه لنستريح منه.
وكونه صالحاً (خير تقدمونها إليه) مثل أن يوجد إنسان يريد أن يتزوج، وفي ليلة زفافه نقول له: هيا نذهب معك فسحة، أو نقول له: تفضل أنت ضيفنا الليلة، فالعريس عنده ما هو أهم من هذا كله، وكذلك الميت الصالح: (فخير تقدمونها إليه) ؛ لأنه أحب ما يكون إليه أن خرج من ضيق الدنيا ونكدها وأثقالها، إلى فسيح الجنة ونعيمها.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن العباس كان يعرف حالة بني هاشم عند الوفاة، فلما ثقل المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع من بني هاشم العباس وعلي رضي الله تعالى عنهما، ودخل العباس على رسول الله فوجده في الصحوة التي صحاها يوم أن توفي، فإنه صحا بعد صلاة الصبح فقال أبو بكر قال: (أراك اليوم بريئاً يا رسول الله! ائذن لي إلى بيت زيد بن فلان) وذهب إلى العالية، فدخل عليه العباس وعلي فخرجوا، فقال العباس لـ علي: يا علي! ارجع فسله فيمن يكون هذا الأمر بعدك، والله إن لم تؤته لتساقن سوق العبد بالعصا، قال: والله لن أسأله؛ لأنه إن منعنا إياها لن نعطاها أبداً، ثم قال العباس: إني أعرف الموت في وجوه بني هاشم فجلسوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لهم: (ائتوني بقسط وكتاب أكتب لكم، ثم تلاحوا، فقال: قوموا عني فإن ما أنا فيه خيرٌ منكم) وهذا محل الشاهد، وفي آخر الأمر كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح ما له حاجة فيهم، ثم أوصاهم: (أوصيكم بكتاب الله وبالصلاة) أوصاهم شفوياً، ولم يكتب لهم شيئاً.
الذي يهمنا قوله: (قوموا عني، فإن ما أنا فيه خيرٌ لي منكم) وهكذا الميت إذا كان في اللحظات الأخيرة، وأمسك اللسان عن النطق، فإنه يرى مصيره، فإن رأى خيراً تجد على وجهه البشاشة والطلاقة، وصباحة الوجه، كأنه إنسان نائم يحتلم في فرح شديد جداً، فيظهر على قسمات وجهه، وكذلك الميت عند الاحتضار، حينما يمسك اللسان يكشف عن مستقبله، وعن حقيقة أمره، فيظهر عليه آثار ما يرى بعينه، إن كان خيراً ظهر عليه فرح وسرور وطلاقة وجه، وإن كان عكس ذلك -عياذاً بالله- ترى وجهاً عبوساً واكفهراراً في الوجه إلى آخره على ما في الحديث: (من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه) وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الميت بين أحد أمرين لا ثالث لهما: فإن يكن صالحاً فخير تقدمونه إليه، فلا تؤخروه، وإن كان غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
وليس معنى الإسراع أن نجري به، فقد جاء عن بعض السلف: أنهم مروا بجنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها شنة، أي وعاء فيه ماء قليل، أو القربة اليابسة الصغيرة فيها قليل من الماء يتراكض له صوت، فكأن الجنازة بإسراعهم شنة فيها قليل من الماء، فقال صلى الله عليه وسلم (ارفقوا بالميت) إذاً: ليس بالإسراع الذي يؤذي الميت لو كان حياً على هذه الخشبة، وأمرنا أن ننقله إلى مكانه بسرعة، فكيفية الإسراع: ألا نسرع كالجري، ولا نتباطأ ونتكاسل ونتمهل في المشي، وعلى هذا يكون الإسراع بينَ بين، ليس هو بالتواني البطيء، وليس هو بالهرولة، ولا بشدة الركض، إنما يكون متوسطاً.
الشيء الثاني: لو أن الذين يحملون الجنازة أقوياء وأسرعوا، فذلك يشق على المشيعين؛ لأن فيهم الكبير، وفيهم المريض، وفيهم العاجز، وفيهم، فيريد أن يتابع الجنازة في تشييعها.
إذاً: (أسرعوا بالجنازة) الإسراع هنا في حدود المعقول، ليس هو بالإسراع المخل بالمروءة، والذي يؤذي الميت، وليس هو بالبطيء المتواني المتكاسل، والله تعالى أعلم.
فائدة أخرى: الحديث يعطي إشارة إلى معنى، وهو أنه منذ أن يوضع في القبر سيجد خيراً أو شراً، ويمكن لإنسان أن يضيف هذا الحديث إلى أدلة إثبات نعيم القبر وعذابه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول (إن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) إذاً: الشر موجود والخير موجود، وهذا الحديث يشير بدلالة الإيماء والتنبيه على وجود نعيم القبر وعذابه.