كل ما سبق إنما جاءنا بسور كاملة، وجاءنا ما يوحي بأنه تنقسم السورة الواحدة بين الركعتين، وأما قراءة بعض الآيات من سورة في ركعة، وبعض الآيات من سورة أخرى في ركعة، فـ مالك رحمه الله في مبحث سجود التلاوة يكره أن يقتصر الإنسان على بعض آيات من سورة طويلة، والأفضل عنده سورة قصيرة بقدر تلك الآيات أولى من أن تأخذ بعض آيات من سورة، وما وجه النظر في هذا؟ وجهة النظر عميقة جداً؛ لأنك إذا جئت وأخذت خمس أو أربع أو ثلاث آيات من سورة من السور الطوال ربما تكون تلك الآيات التي أخذتها جزءاً من موضوع طويل، لكن حينما تأخذ سورة صغيرة فكل سورة من القصار هي موضوع مكتمل بذاته، وحتى لو طالت قليلاً فسوف تجدها تدور حول موضوع واحد، وقد أشرنا سابقاً إلى هذا، وأن هذا يحتاج إلى تأمل.
فلو جئت من أول المفصل وأخذت من سورة تبارك، انظر إلى افتتاحية السورة فسوف تجد موضوعها يدور حول افتتاحيتها، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:١] ، فكل ما يأتي بعد الافتتاحية يدور حول القدرة والعظمة الإلهية:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:٣-٤] ، إلى آخر السياق، وإذا جئت إلى الجزء الأخير فأوله:{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}[النبأ:١-٣] ، وما هو النبأ العظيم الذي اختلفوا فيه؟ قيل: هو القرآن، وقيل: هو البعث، وهو الصحيح، ثم تأتيك بعد هذا أدلة البعث مكتملة في سورة النبأ:{أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}[النبأ:٦-١٠] ، إلى قوله:{إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا}[النبأ:١٧-١٨] ، فكل السياق في هذه السورة يمشي تباعاً على النبأ العظيم ويبينه.
وإذا جئت إلى قصار السور مثل الضحى، رأيتها تدور حول تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، وتعداد النعم عليه، وتأتي بعدها سورة الانشراح وهي تابعة لما قبلها بصيغ الاستفهام المتتالية، وهكذا تجد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تدور حول وحدانية المولى سبحانه، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) تدور على الاستعاذة بالخالق من المخلوقات، فوجهة نظر مالك رحمه الله فيما يقرأه القارئ مع الفاتحة أنه يختار سورة قصيرة خير من أن يختار عدة آيات من سورة طويلة، مع أن الكل جائز لعموم ما تيسر، والذي تيسر آية أو أكثر.