[الأمر بغسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أمر تعبدي عند المالكية]
وبعض المالكية يقول: إن الأمر بإراقة الماء وغسل الإناء، وتسبيعه في التغسيل، وتتريبه بالتراب في إحداهن: أولاهن، أو أخراهن السابعة أو الثامنة -كما قال الحسن البصري - أمر تعبدي، وليس من باب تطهير النجاسات، وما هو الأمر التعبدي في ذلك؟ قالوا: سبب غسل الإناء من سؤر الكلب وإراقة الماء وتطهير الإناء بعد إراقته أمر طبي لصحة الإنسان؛ لأن الكلب يصاب بداء الكَلَب، وداء الكَلَب ينتقل من الكلب إلى الإنسان إذا عض الإنسان، أو تناول إنسان بعده من سؤره، فتنتقل جرثومة داء الكَلَب من الكلب إليه، ويصير مسعوراً مثل الكلب، قالوا: فأمر بإراقة الماء حتى لا يشربه أحد، وبتطهير الإناء حتى لا تبقى آثار الجرثومة في الإناء.
ورد عليهم الجمهور بأن الكلب الكلِب لا يشرب الماء، وإذا شرب الماء وولغ فيه فليس مسعوراً، ورد عليهم المالكية وقالوا: إن الكلب قد يصاب بالداء ولا تظهر عليه آثاره إلا بعد خمسة عشر يوماً، وعند ذلك تتكاثر فيه الجرثومة، وتظهر آثارها عليه، وحينئذ لا يقرب الماء، والشرع المطهر عمم الحكم فيما كان مصاباً ولم تظهر أثر الإصابة عليه ومالم يصب بشيء، سداً للباب.
ثم نأتي إلى مسألة التتريب، نجد في بعض الأبحاث الطبية الحديثة أنه لا يمكن للمطهرات الكيميائية أن تقضي على داء الكلب، ولا يقضي عليه غير مادة موجودة في التراب تسمى:(فلورين) ، وهذه المادة متوافرة في التراب، فإذا أضيف التراب إلى الإناء مع الماء فإنها تقضي على هذه الجرثومة نهائياً، فوجدنا في الطب الحديث أن هذه المادة (الفلورين) تقضي على داء الكلب، وقد جاء الأمر بإراقة الماء الذي شرب منه الكلب وغسل الإناء سبعاً مع التتريب، ووجدنا أن الكلاب كانت تغدو وتروح في المسجد النبوي، ولم نجد الأمر بغسل آثار الكلب في الصيد، وهذه أدلة المالكية في قولهم بأن سؤر الكلب ليس نجساً؛ والغسل فيه تعبدي.
وأضافوا إلى ذلك -من باب التدعيم القولي بكل صغيرة وكبيرة- أن عدد السبعة يأتي في الطب كثيراً، مثل حديث:(من تصبح بسبع تمرات) ، وحديث:(أريقوا عليه من سبع قرب من سبعة آبار) ، أي: في دواء الحمى، فقالوا: عدد السبعة داخل في الطب؛ ولهذا أمر بغسل الإناء سبع مرات وأضيف إليه التراب.
وبعض من يقول بالنجاسة قالوا: لا حاجة إلى التراب مع الغسل سبع مرات، فلو غسل بالصابون والأشنان ونحو ذلك فإنه يجزئ، وهذا قول عند الحنابلة، لكن رد عليهم بأن الحديث نص على التراب، فقالوا: هذا نظيره في النظافة، والصابون والأشنان منظفان، قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: يجاب على هذا بأنه فاسد الاعتبار، وأي قياس يعارض النص فلا يعتبر؛ لأن النص في التراب، وقالوا: إن التراب أحد الطهورين، فيجمع للإناء بين طهور الماء وطهور التراب، وقال ابن دقيق العيد قاعدة: إذا عاد الفرع على الأصل بالإبطال كان الفرع باطلاً، وذلك مثل قصة الخضر مع موسى عليهما السلام لما قتل الخضر الغلام:{قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}[الكهف:٧٤] ، ثم قال الخضر:{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً}[الكهف:٨٠-٨١] ، فهذا الولد فرع، وهذان الأبوان الصالحان أصل، فحفاظاً على صلاح الأبوين أبقي على الأصل، وقدما على الفرع، وقتل الفرع حتى لا يفسد الأصل؛ وهكذا إذا كان الفرع يعود على الأصل بالبطلان كان الفرع باطلاً، ونحن نشاهد هذا حتى عند الفلاحين، فلو أن شجرة برتقال صغيرة أثمرت كثيراً، فيرى صاحب البستان أنه لو تركت ثمار البرتقال على هذه الشجرة الصغيرة لكسرت أغصانها ولم تحتملها الشجرة، ولذلك يخفف الثمار حتى لا تتحطم أغصان الشجرة، ويتلف بعض الفرع إبقاءً للأصل، وهكذا هنا، فلو جعلنا الأشنان فرعاً عن التراب لأبطلنا التراب، فيكون الفرع مقدم على الأصل، إذاً: هذا الفرع باطل، أما لو قيل: نضيف الأشنان مع التراب فلا بأس؛ لأننا حافظنا على الأصل، وأضفنا إليه غيره.