الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: قال المصنف رحمه الله: [وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى بوله أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فأهريق عليه) متفق عليه] .
حديث الأعرابي هذا يعطينا درساً عملياً في سياسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي معرفة طبيعة البشر، واختلاف العادات في البادية والحاضرة، ومراعاة الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسيات البشر، والمبادرة من الصحابة في إنكار المنكر، وأنه يجب أن يأمر الآمر بالمعروف بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر بغير المنكر، وسيأتي بيان ذلك في شرح هذا الحديث.
جاء هذا الأعرابي، وكان المسجد مبنياً من الجريد وجذوع النخل، فأناخ ناقته على باب المسجد ودخل، ثم تنحى جانباً وبال فيه! لقد رأى عريشاً وجذوع نخل فظنه من ضمن الحضائر الموجودة في البادية للحيوانات، فلما حضره البول بال فيه.
ومن هنا يستحب الفقهاء بناء الحمامات بجانب المساجد؛ لأن هذا الأعرابي حضره البول وضيق عليه، ولم يجد مكاناً ليبول فيه، فنظر إلى حالة المسجد، فترك الناس في جانب وذهب إلى جانب آخر، وجلس يبول، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم نظروا هذا المنكر فاستنكروه، ولو رأى الناس رجلاً متضايقاً خرج منه الريح في المسجد لاستنكروا ذلك منه استنكاراً شديداً، مع أنه ريح ذهب في الهواء وما حصل شيء، لكن الصحابة رأوا الرجل يبول في المسجد فبادروه بالإنكار بصورة منكرة حتى أفزعوه، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تدارك الأمر، وقال:(لا تزرموه) أي: لا تحبسوا البول عليه؛ لأن هذا يضر بالمثانة والعضلات القابضة، وقد يحدث عنده سلس البول، فتركه حتى قضى بوله، وكما يقال: الخطأ قد وقع، وما هو الحل لتدارك هذا الخطأ؟ لو كان قبل أن يبول فسنقول: اذهب إلى مكان آخر، لكنه قد جلس وبدأ في البول، ونحن الآن بين أمرين: إما أن يكمل ما بدأ فيه من خطأ، ويستمر في خطئه، وإما أن نمنعه مما قد بدأ فيه، وهنا تتقابل مضرتان: مضرة استمراره على بوله، في المسجد، ومضرة ما يمكن أن يلحقه في صحته من مرض، وحينما يزجرونه ويطردونه وهو لم يقض بوله، إذا لم يستطع حبس البول فسيقوم وهو يبول، وسيقع البول على أماكن كثيرة، فبعد أن كان البول محصوراً في منطقة صغيرة سيصير في مكان كبير من المسجد، فالمصلحة أن نرتكب ما هو أخف ضرراً دفعاً لما هو أكبر ضرراً، فتركه على ما هو عليه؛ لأنه قد بدأ في خطئه، ودفعه يأتي بخطأ أكبر، ومن هنا يقول العلماء: بنبغي ارتكاب أخف الضررين، فكونه يكمل بوله فيه ضرر، وكوننا نمنعه فيه أيضاً ضرر، وأي الضررين أشد وأيهما أخف، فنرتكب أخف الضررين دفعاً لأشد الضررين، فمن الحكمة أن قال النبي صلى الله عليه وسلم:(اتركوه لا تزرموه) ، فأكمل بوله على مهله.
ولما انتهى من بوله جاءت الحكمة النبوية، فكيف نتدارك هذا الخطأ الذي وقع من شخص جاهل لا يعرف أحكام المساجد؟ فلابد أن نتدارك الأمر، فبوله نجّس المكان، وعلاج القضايا يكون من جذرها، إذاً: نطهر المكان؛ ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء، والذنوب هو الدلو الكبير، ولا يكون الدلو ذنوباً إلا إذا كان مليئاً بالماء، فجيء به وأريق على مكان البول، وانتهت المشكلة، ثم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(إن هذه المساجد لم تبن لهذا، إنما هي لذكر الله وما والاه) ، وهذا الأعرابي رجل عاقل، وجد الفرق بين معاملة الصحابة له وبين معاملة الرسول عليه الصلاة والسلام له، وحسن تعليمه، فلما رأى الفرق رفع يديه وقال: اللهم! ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً؛ لأنه ما رأى من الصحابة رحمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:(لقد حجرت واسعاً) ، أي: إن رحمة الله وسعت كل شيء، وليست لي ولك فقط.
إن هذا رجل أعرابي يجهل أحكام المساجد، فعلى فطرته وجبلته رأى بناء المسجد ولم يهتم به، إذاً: علينا أن نهتم بالمساجد، وحضره البول ولم يجد مكاناً يبول فيه، إذاً: علينا أن نؤمّن دورات المياه عند المساجد، وسيأتينا -إن شاء الله- حديث:(أمر صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في البيوت وأن تطيب) ، وفي رواية:(وأن تبنى لها الميضآت أو المطاهر) ، ويستحب الفقهاء أن يكون بجانب المسجد الميضآت؛ لحاجة الإنسان للوضوء، فهذه الفوائد نأخذها من هذا الحديث، فدراسة الحديث فيها فوائد مستنبطة وليس كالفقه قواعد وقوانين منضبطة، لا تدخل في الاجتماعيات ولا في الأمور الأخرى، فالحديث يؤخذ منه الشيء الكثير.