إذاً: عندنا تعارض بين طلب مسنون وبين نهي بالكلية، وأقل درجات النهي عند الأصوليين الكراهية، فإذا تعارضت اللوحتان لمن دخل المسجد بعد العصر، فإحداهما تقول: افعل سنة، والأخرى تقول: لا تفعل شيئاً، فأيهما أقوى في طلب الامتثال؟ هل يرتكب مكروهاً لفعل سنة؟ لا، ومن هنا رجح الجمهور أن النهي عن الصلاة بعد العصر يشمل جميع الصلوات، فلا تجوز صلاة ذات سبب أو غير ذات سبب في وقت الكراهة.
ثم إننا نجد في السنة حديثاً فيه:(لا صلاة بعد العصر حتى تغرب) ، وفي نص آخر:(لا تحروا غروب الشمس بالصلاة) ، ولا تحروا أصلها: لا تتحروا، فإذا أخذنا هذا النص؛ وربطناه بحديث:(ثلاث ساعات كان ينهانا عن الصلاة فيهن) ، فالوقتان عند غروب الشمس وشروقها داخلان في عموم النهي، وهما أخص الأوقات الثلاثة لقوله:(لا تحروا) ، فهل يكون النهي لخصوص بعد العصر أو لخصوص غروب الشمس وشروقها؟ لخصوص الغروب والشروق؛ لأنه جاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعات الفاضلة للصلاة، والأوقات الممنوع من الصلاة فيها فقال:(إذا كان ثلث الليل الآخر فصل، فإن الصلاة مشهودة حتى تصلي الصبح، ثم أمسك عن الصلاة حتى تشرق الشمس، ثم صل فإن الصلاة مشهودة حتى تستوي الشمس في كبد السماء، ثم أمسك حتى تزول، ثم صل فإن الصلاة مشهودة إلى بعد العصر) ، وفي رواية:(إلى أن تتضيف الشمس إلى الغروب) .
إلى آخر الحديث.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه إذا سئل عن الصلاة بعد العصر يقول: أنا لا أنهى عن الصلاة مخافة من قوله سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى}[العلق:٩-١٠] ، ويقول: أنا لا أنهى أحداً صلى في أية ساعة، ولكن لا تحروا بالصلاة طلوع الشمس أو غروبها.
وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه القول الفصل في ذلك، فإنه رأى زيد بن خالد يصلي بعد العصر، فضربه بالمقرعة وهو في الصلاة، فلما أنهى صلاته قال: لماذا تضربني يا أمير المؤمنين؟! فقال: أتصلي بعد العصر؟ فقال: نعم، أصلي ركعتين، ولن أتركهما، فاضرب كما تريد! فقال: يا زيد! إني لم أضرب عليهما إلا أني خشيت أن يتمادى الناس بالصلاة بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(لا تحروا بالصلاة غروب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان) ، وبين علة أخرى للنهي بقوله عليه الصلاة والسلام:(فإن قوماً يسجدون لها في ذلك الوقت) ، وكره أن يشابه المسلم الكافرين بالصلاة في ذلك الوقت، ومن مقاصد الشرع مخالفتهم.
إذاًَ: عمر كان يضرب عن الصلاة بعد العصر سداً للذريعة، حتى لا يصلي أحد عند الغروب.