قال المؤلف رحمه الله: [وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم! ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال في الثالثة: والمقصرين) متفق عليه] .
فهذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة للمحلقين، والمحلقون هم: الذين حلقوا شعور رءوسهم عند التحلل، والمقصرون هم: الذين قصروا بالمقص أو بالمكينة التي حدثت الآن، ولم يحلقوا بالموسى، والله سبحانه وتعالى ذكر الأمرين فقال:{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}[الفتح:٢٧] فنص على الأمرين، إذاً: كلا الأمرين مجزئ، ولكن تقديم الحلق في قوله تعالى:(مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) يدل على أن الأفضل هو الحلق، وهنا كون المسألة فيها أفضلية يدل على أنها متقاربة، ودل على الأفضلية أنه صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين مرتين، وهم يسألونه: يا رسول الله! والمقصرين، يعني: وادع للمقصرين، وهو يعرض عنهم ويقول: اللهم! ارحم المحلقين، وفي الثالثة قال: والمقصرين.
ومتى كان هذا الدعاء؟ الجواب: يختلف العلماء في وقته، فمنهم من يقول: كان في صلح الحديبية، ومنهم من يقول: كان في حجة الوداع، والنووي وغيره يرجح أنه كان في حجة الوداع، ولكن الذي يظهر أنه كان في عمرة الحديبية، وذلك أنهم سألوا: ما بال المحلقين يا رسول الله؟! -يعني: دعوت لهم ثلاث مرات أو مرتين- قال:(لم يشكوا في أي شيء) أي: عند أن أمرهم بالتحلل في عمرة الحديبية، فإنه لما منع المشركون المسلمين من أن يأتوا إلى البيت، وأن يطوفوا ويسعوا ويكملوا العمرة على وجهها، تم الصلح معهم وكتبت الصحيفة، وكان في الصلح خير كثير جداً، وقد سمى الله عمرة الحديبية فتحاً، وأنزل فيها سورة الفتح، فقال عمر:(أفتح هي يا رسول الله؟! قال: نعم، هي فتح) وقال صلى الله عليه وسلم فيها: (والله! ما يطلبون مني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها) أي: مطلقاً، فانتزع الله -بفضله- من المشركين اعترافاً بالكيان الإسلامي، بينما الرسول سبق له وأن خرج من مكة مختفياً في الغار ليلاً، لكن وبعد ست سنوات يأتي إلى مكة بجيش، ويأتي معتمراً ويدخل عليهم عنوة، فجلسوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على مائدة المفاوضات، وهذه الجلسة على المفاوضة، وتوقيع المسلمين وتوقيع سهيل بن عمرو على الصحيفة يساوي اعترافاً من المشركين بالكيان الإسلامي الذي فاوضوه، يعني: أنهم اعترفوا بالأمة الإسلامية، وهذا يعد فتحاً عظيماً.
لما تم ذلك الصلح قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تحللوا، وانحروا الهدي، واحلقوا شعوركم: أي: أن العمرة قد انتهت، ولكن بعضهم قال: كيف انتهت ونحن لم نر الكعبة؟!! وكيف انتهت ونحن ما طفنا ولا سعينا؟!! لأن لهم مقاييس وللرسول صلى الله عليه وسلم مقاييس أخرى، فتوانوا عن التحلل، فغضب صلى الله عليه وسلم، ودخل على زوجه أم سلمة، فقالت: ما لي أراك غاضباً، أغضب الله من أغضبك؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: تصالحنا مع القوم، وانتهت العمرة، وأمرتهم أن ينحروا ويتحللوا فلم يتحلل أحد قالت -انظر الحكمة والروية والعقل-: أتحب أن يفعلوا ذلك؟ قال: نعم، قالت: لا عليك، خذ المدية، واخرج على الناس ولا تكلمن أحداً، واعمد إلى هديك فانحره، ثم ادع الحلاق واحلق شعرك، ثم الزم خيمتك، فإذا به صلى الله عليه وسلم قد وجد حلاً عملياً يقطع على أولئك المتوانين مطامع الرجاء في حل آخر؛ لأنه إذا كان الرسول قد نحر وحلق، فما هو الذي بأيديهم بعد هذا، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نحر هديه بادروا إلى نحر هديهم، ودعوا الحلاق وكادوا يقتتلون على الحلاقة، وانتهت القضية، وفي هذا الظرف منهم من حلق، ومنهم من قصر، والذي حلق والذي قصر كلاهما امتثل، وكلاهما تحلل، ولكن الذي حلق شعره كان حلقه على يقين بالأمر (مائة في المائة) ، وأما الذي قصر فكأنه تحلل وهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، وليس هو على الثقة وعلى اليقين الذي عليه الذي حلق شعره؛ لأن الذي حلق شعره متيقن وليس عنده شك.
إذاً: الأولى ترجيح أن ذلك الدعاء كان في عمرة الحديبية.