[أركان الشفعة وفي أي شيء تكون]
وهذه النصوص التي جاءت وسمعناها في الشفعة كما يقول ابن رشد رحمه الله تعالى: تبحث من عدة جوانب: أولاً: أركان الشفعة، وأركانها: شافع، ومشفوع عليه، ومشفوع فيه.
أما الشافع: فهو الشريك الأول، وأما المشفوع عليه فهو المشتري، وأما المشفوع فيه، فهو موضع البحث عند العلماء.
ثانياً: في أي شيء تكون؟ عندنا الحديث الأول وفيه: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا جرت القسمة، وصرفت الطرق، وضربت الحدود؛ فلا شفعة) يؤخذ من هذا الحديث: أن الذي تقع فيه الشفعة هو الملك المشاع مثل عقار يمكن أن يقسم وتميز الحصص الشائعة، كما يقال: قسمة إفراز، فإذا كان هناك اثنان يمتلكان بيتاً أو أرضاً، واحد منهما له الثلث والآخر له الثلثان فهو مشاع، فلكل واحد منهما حصته في كل شبر منها، كل شبر من الأرض لأحدهما فيه الثلث والآخر له الثلثان؛ لأن هذا حق مشاع داخل في جميع جزئيات الأرض المشتركة، وهذا خلاف ما يقال عند المتأخرين والمتقدمين: ما كانت الشراكة فيه على التعيين، بمعنى: هذه الأرض ألف متر، له خمسون متراً ولشريكه الباقي، فهنا هذه شركة على التعيين بالأمتار وليست مشاعة بنسبة مئوية، وهذا النوع من الشراكة، الجمهور على أنه لا شفعة فيه، وعند بعض المالكية أنها تساوي الشراكة المشاعة بدون تعيين وتحديد مقدار.
فإذا كان الحديث: (الشفعة فيما لم يقسم) .
إذاً: يكون قابل القسمة فإذا كان العقار من حيث الصغر أو من حيث موضوع عمله لا يقبل قسمة فلا شفعة فيه، فلو أن هناك مصنعاً لتجميع سيارات، أو منجرة فيها آلات يساعد بعضها بعضاً؛ فمنها المنشار الذي يشق الخشب والذي يمسحه ومنها ما يثقبه، وكلها يكمل بعضها بعضاً، فلا يمكن قسمتها، فلا يمكن قسمة المنشار، ولا يمكن قسمة الآلة التي تنعم الخشب، فإذا قسمت وأخذ واحد منشاراً، وأخذ الثاني قطعة من خشب فالمنشار بدون تلك القطعة لا يعمل شيئاً، أو كان العقار صغيراً، كدكان مساحته متر في متر ونصف، وقد شاهدنا سابقاً بعض الدكاكين لا يزيد عن متر في مترين، متر واجهة ومترين عمق، فكيف يقسم؟ وإذا قسم لا يستفاد من قسمته، فهذا لا شفعة فيه.
وقالوا: ما أبطلت الشفعة المنفعة المقصودة منه فلا شفعة فيه، ومثلوا بالحمام، والحمام هو: مبنى كبير فيه مرافق لجلوس الناس وراحتهم بعد الاستحمام، وفيه مغطس فيه ماء حار، وفيه موضع للتدليك، فلو قسمنا هذا الحمام لبطل كونه حماماً؛ لأن كل شقص منه لا يؤدي وظيفته كحمام بكامله.
إذاً: لا تصح فيه شفعة.
وكذلك الرحى على ما كانت قديماً، كانت تدار بالماء وتدار بالهواء، وهي تقبل القسمة؛ لأنها حجر فوق وحجر تحت، ولكن أحد الحجرين لا يعمل بدون الآخر، كما يقول المثل العامي: (يد واحدة لا تصفق) ، أي: لابد من ضم اليد الثانية إليها، وكذلك الرحى، وهكذا البيت الصغير، إذا لم يقبل القسمة وإذا قسم عطلت منافعه، فلا يصلح لسكنى أحد.
إذاً: قوله: (ما لم يقسم) يفيد أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة؛ لأن نفي القسمة لا يكون عن شيء من شأنه أن يقبل القسمة، وهذه قاعدة عند علماء المنطق يسمونها: (العدم والملكة) ، وهو أنه لا يحق لك أن تنفي صفة عن شيء إلا إذا كان قابلاً للاتصاف بها، فلا تقول: هذا الكرسي لا يطير؛ لأنه ليس من شأنه الطيران، ولا تقول: هذه السارية لا تسمع؛ لأنه ليس من شأنها أن تسمع، فتنفي عنها شيئاً ليس من شأنها، اللهم إلا إذا كان في العصور الحديثة حيث صارت السماعات تجعل في الجدران!! فهنا: (مالم يقسم) نفي القسمة يدل على أن المتحدث عنه قابل للقسمة.
ومن هنا خص الجمهور الشفعة في الشراكة؛ لأنه إذا ضربت الحدود، بمعنى: قسمت فلا شفعة، فإذا كان هناك ألف متر من الأررض وأردنا أن نقسمها مناصفة فهل يتعين أن كل قسم يكون خمسمائة متر أو يمكن أن يتفاوت في القسمة بحسب المواقع، فإذا كانت هناك واجهة عشرون متراً، وواجهة من الجهة الثانية عشرة أمتار، وقسمناه عرضاً، فسيكون النصف على الواجهة الأولى عشرون متراً، والنصف على الواجهة الثانية عشرة أمتار، فهل يستويان معاً وتتحد فيهما الرغبة؟ الجواب: لا، بل لابد أن ننقص من القسم الذي على الواجهة الواسعة لنعوض صاحب الواجهة الصغيرة.
إذاً: بحسب القسمة، وقعت القسمة بالمناصفة في الحقوق، لا في عين المساحة إذا قسمت ووضعت الحدود؛ لأن المشاع ليس فيه حدود، (فإذا وضعت الحدود) أي: جعل هذا حد قسمي وهذا حد قسمك، (وصرفت الطرق) كأن يكون الطريق كله في الشارع الواسع؛ لأنه مشترك مشاع، ولما قسمنا اضطررنا أن نوجد طريقاً آخر للقسم الثاني فجعلنا طريقه من الشارع الآخر سواءً شرقاً أو غرباً، فحينئذ إذا وقعت القسمة وضربت الحدود وصرفت الطرق، فقد انتفت الشراكة، وأصبح كل واحد من الشريكين جاراً للآخر، فقالوا: لا شفعة للجار بمقتضى هذا الحديث، وهو كما ذكر المؤلف رواه الشيخان البخاري ومسلم، وليس فيه أي مطعن.
إذاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل مالم يقسم) يعني: في كل شراكة في أي عقار قابل للقسمة ولم يقسم، فإذا ما جرت القسمة، وضربت الحدود، وصرفت الطرق انتفى معنى الشراكة وأصبحا بدل الشريكين جارين.