[تملك الأرض بالإعمار والإحياء في الإسلام]
[عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله وعليه وسلم قال: (من عَمَّرَ أرضاً ليست لأحد؛ فهو أحق بها) ، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته، رواه البخاري] .
(من عَمَّرَ أرضاً) ، أي: أحياها بالتعمير؛ لأن التعمير سواءً في السكنى بالبناء، أو في الأراضي الزراعية بالإحاطة، وهذا موجود إلى الآونة الأخيرة في المملكة، ونحمد الله سبحانه وتعالى أن هذا التشريع معمولٌ به إلى اليوم، ومن سبق إلى أرض ميتة فأحياها أصبحت اختصاصاً له ويتقدم إلى المحكمة ويثبت إحياءه لها، وتنظر قضائياً، ويعطى صك تملك عليها، وهذا من نعم الله سبحانه وتعالى.
وتعمير الأرض: هو تغيير وضعها البكر، كما يقولون عن المادة الخام: تغيرها وتطورها، فهذه الملابس التي تلبس ليست مادة خام وإنما مصنعة: أخذ الصوف عن ظهر الشاة، ثم ذهب إلى المغزل، ثم إلى المنسج ونسج، ثم إلى الخياط فهذا تطوير للمادة الخام.
وكذلك لقمة الخبز التي تأكلها ليست مادة خام، بل أصلها حبة البر، زرعت، وسقيت، وحصدت، وديست، وطحنت، وعجنت، وخبزت، ثم وصلت إليك خبزاً لتأكله، فهذه التطورات تسمى: تطوير المادة الخام، وكل حركة في هذا التطوير في مقابل؛ إذ هو عمل مشروع والأجر فيه مشروع.
وبذلك يرد علماء الاقتصاد على معاملات الربا: بأن المرابي يأخذ كسباً دون مقابل، بخلاف التاجر والصانع والزارع؛ فكل ما يحصل عليه في مقابل عمل داخل في تطوير المادة الخام، فإذا كانت الأرض ميتة {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:٣٩] يحييها بماذا؟ ليس فيها روح لتتكلم، ولكن لكي تعطي ما وجدت من أجله وهو الثمار، فهذه حياتها تعطي ثمارها وزروعها.
فتعمير الأرض هو بجعلها تعطي ما وجدت من أجله وهو الزراعة والسكنى إلى غير ذلك، فمن عَمَّرَ أرضاً بالسكنى -وليس بلازم أن تكون عمارة ضخمة بل أقل ما يصدق عليه أمر السكنى- أو أحاطها بحائط ونصب خيمة داخلها، أو سكن داخل الحائط بدون خيمة فهو سكنى ويأخذ عليه حق التملك.
وكذلك الأرض الزراعية: إذا حفر البئر وأتى بالماء وحرث الأرض وسقى وزرع فإنما يكون إحياء لها، ولو أنه حفر بئراً دونما زرع ولا حائط ولا غرس ولا شيء فله أربعون ذراعاً نصف قطر الدائرة، حول البئر لبهائمه ومعطناً لحيوانه يشرب ويقيل فيه.
إذاً: (من عَمَّرَ) أي: جعلها عامرة، والعامر ضد الخراب، فجعلها صالحة للاستفادة منها.
[قال عروة: وقضى به عمر في خلافته] .
وهذا منهج يسلكه مالك رحمه الله في الموطأ، وتبعه المؤلف هنا: وهل إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لنا حاجة في أبي بكر وعمر؟ ليس لنا حاجة، ولكن من حيث التأليف والتمكين والبيان والإيضاح ودفع الشبه يأتي بفعل الخلفاء بعد رسول الله، لأن العمل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل للنسخ والإحكام، ولكن إذا استمر العمل بهذا الأمر بعد رسول الله هل يمكن أن يدعي أحد نسخه؟ لا؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنص متأخر يرفع حكم نص متقدم، وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هناك أحد من حقه أن يورد نصاً ينسخ به حكماً حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الحكم بتمليك الأرض بإعمارها ماض لم ينسخ، عمل به بعد رسول الله في خلافة أبي بكر وامتد العمل به إلى خلافة عمر، فهل يحق لإنسان بعد ذلك أن يقول: لا يحق لإنسان أن يتملك الأرض بالإحياء أو بالتعمير؟ لا، هذا رسول الله حكم به، وهذا العمل ماض في خلافة أبي بكر بعد رسول الله، ويمتد العمل به إلى خلافة عمر.
إذاً: انتهينا من أنه حكم مشروع ثابت لم يعتره نسخ.
[وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) ، رواه الثلاثة، وحسنه الترمذي وقال: روي مرسلاً، وهو كما قال] .
نفس الطريق المتقدم، والمراد بميتة: لم يسبق عليها ملك لأحد.
قال: [واختلف في صحابيه، فقيل: جابر، وقيل: عائشة، وقيل: عبد الله بن عمر، والراجح الأول] .
يقول هذا تنبيهاً من ناحية السند، واصطلاح علماء الحديث: أن الحديث المرسل هو الذي لم يذكر فيه الصحابي الذي سمعه من رسول الله، وسبق أن قرأنا في البيقونية: ومرسل منه الصحابي سقط وقل غريب ما روى راوٍ فقط فالمرسل في اصطلاح علماء الحديث والسند: ما ذكر فيه الرواة إلى التابعي، وهو ولابد أن يكون قد أخذه عن صحابي، لكن من صحابي هذا الحديث الذي سقط من سنده؟ قيل: ابن عمر، قيل: عائشة، قيل: جابر، وهل يضرنا جهالة الصحابي؟ جهالة الصحابي الذي أسقط من السند لا تضر؛ لأن علم السند نتتبع به الرجال الذين أسند إليهم الحديث لننظر: أعدول هم فنقبل الحديث، أم غير عدول فنرده، والصحابة بإجماع المسلمين كلهم عدول ولا يفتش عنهم.
إذاً: ذكر الصحابي أو لم يذكر فالأمر سواء، ولكن ما ذكر فيه الصحابي أقوى إسناداً مما لم يذكر فيه، لماذا؟ قالوا: هذا التابعي الذي يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نضمن أن الذي أسقطه صحابي أم تابعي مثله وصحابي؛ لأن التابعي قد يروي عن قرينه تابعي آخر، ونحن الآن عرفنا هذا التابعي الذي وقف عنده الإسناد، ولا ندري التابعي الآخر؛ لأن التابعي داخل في محل البحث والنقد.
وعلى كلٍ يقولون: إن المراسيل ضعاف، إلا مراسيل سعيد بن المسيب كما يقول الشافعي رحمه الله: سعيد بن المسيب إذا أرسل الحديث لا يفتش عليه؛ ولقد بحثت في مراسيل سعيد فوجدتها كلها متصلة.
عرف الصحابة الذين أسقطهم سعيد بن المسيب في رواياته، إذاً انتهينا من هذا.