وهنا إشكال يرد على قوله:(اتخذوا قبور أنبيائهم) ، فالأنبياء: جمع نبي، أما اليهود فقد جاءتهم رسل وأنبياء، ولكنهم كانوا يكذبونهم ويكفرون بهم ويقتلونهم، كما قال تعالى:: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:٨٧] يعني: أن اليهود أتتهم رسل عديدة، أما النصارى فلم يأتهم إلا رسول واحد، وهو عيسى عليه السلام، فما هو التوجيه لقوله صلى الله عليه وسلم:(اتخذوا قبور أنبيائهم) بالجمع، وكيف يصدق على النصارى؟ قيل: هذا اللفظ صادق على واحد لا بعينه، فهو دائر بينهما، وهو يصدق على اليهود، فيكفي ذلك.
وقيل: إن مجموع أنبياء اليهود، أو أنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى؛ لأن النصارى مكلفون بالإيمان بالنبي الذي أتاهم -وهو عيسى عليه السلام- وبالأنبياء الذين جاؤوا من قبل، فأنبياء بني إسرائيل يعتبرون أنبياءً للنصارى، كما أن الإسلام أمر المسلم أن يعلن إيمانه بجميع الرسل، كما قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}[البقرة:٢٨٥] ، ولهذا كان الحكم في الإسلام أن من كفر برسول واحد فكأنما كفر بجميع الرسل؛ لأن أمرهم واحد، فقد قال صلى الله عليه وسلم:(نحن معاشر الأنبياء آبناء علات، ديننا واحد) ، والعلات: جمع علة، وهي الزوجة بعد الزوجة، أي: إن الرجل يكون تحته عدة نسوة، وتأتي كل امرأة بولد، فهؤلاء الأولاد أبناء علات والأب واحد، وهذا التشبيه منه صلى الله عليه وسلم معناه أن الرسل وإن تعددوا في أممهم فإن مرجعهم واحد، وهو الوحي من الله واصطفاء الله إياهم، وهم رسل الله سبحانه جل جلاله.
فقالوا في قوله:: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم) الجمع في الأنبياء يعم اليهود بالواقع والمطابقة، ويشمل النصارى بالعقيدة واللازم؛ لأنه يلزمهم الإيمان بجميع أنبياء بني إسرائيل، وجاء الأمر إلينا، وألزمنا بالإيمان بجميع رسل الله من علمنا ومن لم نعلم، قال تعالى عن الأنبياء:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}[غافر:٧٨] ، فنحن نؤمن بكل رسول أرسله الله سبحانه وتعالى، ولو لم نعلمه.
قوله:(اتخذوا قبور) القبور: جمع قبر.
قوله:(مساجد) معناها: أن القبر قد وجد، ثم جاءوا إلى هذا القبر واتخذوه مسجداً، وعلى هذا يقول العلماء -في حكم المسجد مع القبر-: الحكم للأسبق، فاليهود لعنوا لأنهم جاءوا إلى القبور واتخذوها مساجد، أما لو كان المسجد موجوداً، ثم جيء إلى المسجد واتخذ فيه القبر، فيكون المسجد هو الأسبق، والحق له، ولا حق للقبر.