للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأولوية في النفقة والصدقة]

قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (تصدقوا.

فقال رجل: يا رسول الله! عندي دينار قال: تصدق به على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر به) رواه أبو داود والنسائي، وصححه ابن حبان والحاكم] .

هذه مسألة جديدة وهي: بيان الأولوية في الصدقة: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة، وكثيراً ما كان يحث أصحابه على ذلك، والصدقة بمعنى الصدق، وقد قدمنا الإشارة بأن فقه اللغة يقول: إذا اشتركت مادتان في أكثر الحروف، واختلفتا في حرف واحد؛ كان بين المعنيين صلة قوية، وكان الفرق بينهما بقدر الفرق في الحرف الذي اختلفتا فيه.

ومثلوا لذلك بمثال واضح، فقالوا: مادة (خبن) ، ومادة (غبن) ، خبن: الخاء والباء والنون، وغبن: الغين والباء والنون؛ فاشتركتا في الباء والنون، واختلفتا في الخاء والغين، فقالوا: بين الخبن والغبن قدر مشترك، وذلك أن الخبن هو تقصير ونقص في الثوب الطويل، والغبن نقص في الثمن.

فيكون غبن على البائع إذا باع بأقل من الثمن، فيكون نقصاً عليه، ويكون الغبن في الثمن إذا اشترى بأكثر من القيمة، فيكون نقصاً عليه، وقالوا: الخاء أظهر من الغين في المخرج، وهم يقولون: إذا أردت أن تعرف مخرج الحرف، فائتِ بالهمز، وسكن الحرف، وقف عليه، ففي الخاء تقول: أخْ، فهي من سقف الحلق، والغين تقول: أغْ، كأنها داخلة إلى الحلق، فلما كانت الخاء أظهر في الحروف جعلوها في المعنى الأظهر؛ لأن خبن الثوب تشاهده بعينك، وتخبنه بالخيط، وتعرف الزائد من الناقص، أما الغبن فهو أمر خفي قد يخفى على بعض الناس، ولا يدرك مقدار هذا الغبن في هذه السلعة.

من هنا يقول العلماء: إن الصدقة والصدق اتفقتا في المادة في الحروف الثلاثة، وزيدت التاء للتأنيث، فالصدق مادته: (الصاد، والدال، والقاف) ، والصدقة مادتها: (الصاد، والدال، والقاف) ، إذاً: كلاهما بمعنى: الصدق، بمعنى: التصديق، والتصديق في الصدقة هو: أن الإنسان في حياته لا يبذل شيئاًَ إلا عن عوض، وقدمنا ذلك مراراً، وقلنا: إن الحياة مبناها على قانون المعاوضة، والأمر الطبيعي بين الناس أنك لا تدفع درهماً واحداً بغير عوض، وتدفع الملايين في عوض يعادلها، وهنا حينما تدفع الصدقة فأنت لا تأخذ عوضاً عليها ممن تتصدق عليه، إذاً: أين المبادلة؟ أين المعاوضة؟ بل إنه من كمال الصدقة أن تخفي الصدقة حتى عن نفسك: (حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك) .

إذاً: أين قانون المعاوضة هنا؟ قالوا: قانون المعاوضة هو أن المعاملات المادية بين الناس معاوضة فيما بينهم: خذ وهات، ولكن الصدقة معاوضة بين المتصدق وبين رب العالمين، فهو يتصدق ويدفع مصدقاً بوعد الله، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة:٢٤٥] ، {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ.

} [البقرة:٢٦١] ، ومن هنا فالمؤمن مصدق بوعد الله؛ فهو يدفع الصدقة لمن يعرف ومن لا يعرف، ولا ينتظر منه شيئاً: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:٩] ؛ لأنه يتعامل مع رب العالمين، ورب العالمين لا تخفى عليه خافية، ولا يضيع عنده معروف.

وفي الحديث: (والصدقة برهان) ، أي: على إيمانه وتصديقه بأن الله سيعوضه عن تلك الصدقة، فالحد الأدنى بعشرة أمثالها، والحد الأعلى لا نهاية له، إلى سبعمائة ضعف، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:٢٦١] ، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يحثهم على الصدقة، ويحثهم على ألاَّ يستقل إنسان شيئاً؛ لأن العبرة ليست بالكثرة؛ وخزائن الله ملأى، وما عند الله أكثر مما عند البشر، ولكن العبرة بتعاطف المسلم مع أخيه، والشفقة والرحمة وحب الخير والمساعدة، هذا هو الأصل الأساسي في تبادل الصدقة بين الغني وبين الفقير.