[شرح حديث بئر بضاعة]
قال رحمه الله: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الماء طهور لا ينجسه شيء) أخرجه الثلاثة، وصححه أحمد] .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤتى له بالماء من بئر بضاعة ويتوضأ منه، وبئر بضاعة في الشمال الشرقي من المدينة على مسامتة سقيفة بني ساعدة إلى الشمال، وكانت هذه البئر موجودة إلى عهد قريب، وأقيمت على مزرعتها مدرسة تحفيظ القرآن، وبعد ذلك كان النادي الأدبي، ثم أزيل الجميع.
وبئر بضاعة معلم من معالم السنة، ودراسة جغرافيتها نستفيد منها فوائد، وقد سبق إلى ذلك أبو داود رحمه الله، فعندما جاء إلى المدينة ذهب إلى هذا البئر، وقاس مساحتها.
فكان صلى الله عليه وسلم يستقى له من هذه البئر، ولم تكن كل آبار المدينة عذبة صالحة للشرب، وقصة بئر رومة معلومة، وهي التي تسمى الآن: بئر عثمان، كانت هذه البئر يستقي منها أهل المدينة، وكان رومة رجلاً يهودياً يبيع الماء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة وله الجنة) ، فذهب إليه عثمان وثامنه، فأغلى الثمن جداً، فتكاثر عثمان الثمن، فقال: أنت حريص على الماء، فبعني نصفه، فباعه نصف البئر، فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: نقسم البئر، فقال: كيف نقسمه؟ قال: لك يوم، ولي يوم.
وهذه قسمة عادلة.
فأعلن عثمان رضي الله تعالى عنه لأهل المدينة أن الماء في يوم عثمان مجاناً في سبيل الله، وصار الذي يريد ماء يأخذ ليومين، فيأتي يوم رومة ولا يوجد أحد يشتري منه الماء؛ لأن الناس يأخذون الماء في يوم عثمان، المهم أنه اشتراه منه، فكان الناس يستقون الماء من بئر عثمان في سوق كان هناك.
وفي ذات يوم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أبا بكر وعمر فقال لهما: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ قالا: أخرجنا الجوع، قال: وأنا والله ما أخرجني إلا الجوع، هلموا إلى فلان) ، وذهبوا إليه في بستانه، فوجدوا زوجته فقالت: إنه ذهب يستعذب لنا الماء، ثم جاء الرجل، وأكرمهم بقنو من النخل فيه رطب وبسر وتمر، وذبح لهم.
إلخ، والشاهد: أنه ذهب يستعذب ماء للشرب.
وكانت بئر بضاعة من الآبار التي يستعذب ماؤها، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، تنبيهاً على الواقع، ليعلم حقيقة الأمر، وهذا أيضاً من حقه عليهم، كما في قصة الضب، عندما قدم في المائدة، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأكل منه فقيل له: إنه ضب، فرفع يده، فقالوا: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه) ، فاجتره خالد بن الوليد فأكله.
فهم قد أخبروا رسول الله بماذا سيأكل، وهذا كذلك هنا للتنبيه، فقد أخبروه بما يستقى له من الماء فقالوا: أيستقى لك من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن؟ وفي بعض الروايات: الحِيَض -أي: قطع الخرق التي تستعملها الحائض-، فكانت خرق الدم تلقى في هذه البئر، فكان الجواب بعد هذا البيان: (الماء طهور لا ينجسه شيء) ، فانظر إلى هذا السؤال وهذا الجواب، فالماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأن الماء الذي استقي له، وجيء به إليه؛ ليس به شيء من هذه الأشياء الموجودة في البئر، فقوله: (الماء طهور لا ينجسه شيء) يعتبر مطلقاً بدون قيد، فالماء من حيث هو طهور؛ لكن المؤلف بين التقييد بالحديث الثاني: (الماء طهور، إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه بنجاسة) ، وكلمة (بنجاسة) لها مفهوم، فلو تغير أحد أوصافه بطاهر فلا يضر.
وهنا خلاف بين العلماء، فالجمهور حملوا المطلق على المقيد وقالوا: نجمع بين الحديثين فنقول: إن الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على أحد أوصافه الثلاثة، فنكون أعملنا القيد في المطلق، والقاعدة عند الأصوليين: حمل المطلق على المقيد، وبهذا يتم الجمع.
وستأتينا أحاديث ليس فيها تغير الماء، ومع ذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن استعمالها، فمثلاً: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات) ، قالوا: الإناء صغير، واليد ليس عليها شيء، وليس فيها ما يغير الطعم، ولا اللون، لكن منع من ذلك، وهذا ماء قليل انغمست فيه اليد، وكذا حديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله) ، وفي قضية بول الأعرابي الذي بال في المسجد فأتي بدلو كبير وأهريق على ذلك البول، فاختلط البول بالماء القليل وتطهر البول بهذا الماء.