[ميراث الجد مع الإخوة]
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ فقال: لك السدس.
فلما ولى دعاه، فقال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه، فقال: إن السدس الآخر طعمة) رواه أحمد والأربعة، وصححه الترمذي، وهو من رواية الحسن البصري عن عمران، وقيل: إنه لم يسمع منه] .
هذا شروع أو بيان لما جاء في ميراث الجد، والجد -كما قال بعض السلف- لا حياه الله ولا بياه، أي: اضطربت الروايات في حقه، فهناك من يجعله كالوالد سواء لقوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:٧٨] ، وقوله: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:٨٢] ، فقالوا: الجد من جهة الأب كالأب، ويجمعون على أن الجد من جهة الأم لا مدخل له في الميراث، وكل جد من أدلى إلى الميت بواسطة أنثى فلا ميراث له، والجد الصحيح عندهم: هو الذي أدلى إلى الميت بمحض طريق الذكورة أبوه، أبو أبيه، أبو أبي أبيه، أبو أبي أبي.
أبيه، فهؤلاء كلهم جدود للميت، وكلهم له حق في الميراث ما لم يكن هناك من يحجبه، فهذا الجد الذي جاء وقال: (إن ابن ابني) هو جد لأب، والجد لأم لا يخطر على بالنا، إلا إن كان من ذوي الأرحام، وذوو الأرحام لهم منهج مستقل.
قال: (إن ابن ابني مات، فماذا لي من ميراثه) ، هنا القضية الواقعية بالفعل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لك السدس.
ثم ولى فدعاه، قال: لك سدس آخر.
فلما أخذ السدس الآخر ولى فدعاه، قال: السدس الآخر طعمة) يعني: ليس بفرض، وهنا الحكمة في التعليم وعدم اللبس؛ لأنه لو قال: لك الثلث -وهو مجموع السدسين- لربما ظن الجد أن فرضه من ولد ولده الثلث، ولكن الحال ليس كذلك، فالجد له السدس فرضاً، والباقي تعصيباً، فنجد من هذا حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والإرشاد، وعدم إيجاد اللبس على السائل، فأعطاه حقاً أولاً بالفريضة حتى ولى وانفصل بهذا الحق وانقطعت علاقته، فدعاه، وقال: لك سدس آخر، فأخذه وذهب، ثم دعاه وقال: السدس الثاني هذا ليس كالأول، الأول فريضة والثاني طعمة.
على هذا التفصيل يأتي الكلام في الجد، وكما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد التفصيل فيها رجع إلى كتب المواريث.
ومما ذكر عن ميراث الجد في عهد الصحابة ما يقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه مر بـ عثمان وهو جالس في الطريق، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، فأخذ في نفسه، وأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر! سل عثمان ما لي أسلم عليه فلا يرد علي السلام؟! دخلنا في الخصومة، ودخلنا في الظنيات والتقديرات، ونبني على الحبة قبة، فلم ينته عمر من كلامه إلا ودخل عثمان فقال: السلام عليكم.
فقال له أبو بكر: ما لك يا عثمان لا ترد السلام على عمر؟ وهذا هو الموقف الصحيح؛ أن نسأله ما عنده؟ قال: ومتى سلمت يا عمر؟ قال: حينما كنت جالساً في المكان الفلاني.
قال: والله ما شعرت به ماراً ولا سمعته حين سلم.
إذاً: قد كان عنده عذر، هناك فتش عمر عما يشغل بال أخيه عثمان عنه؛ لأن مثل هذه الحالة لا تكون إلا في إنسان لا يشعر بمن حوله، وهذه قد تحدث.
قال عمر: فيم كنت تفكر؟ قال: كنت أفكر في ميراث الجد، وكنت أقول: ليتنا سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطانا فيه علماً شافياً، فقال عمر: والله ما أخرجني من بيتي الآن إلا قضية الجد.
إذاً عمر كان في بيته يفكر في الجد، وعثمان كان مشغول البال في الجد، إذاً: الجد شغلهم؛ لأنه لم يأت فيه نص صريح في حكمه في الميراث.
هذا الحديث على ما في سنده، إلا أنه لا بأس به، وهو يعطينا: أن الجد له حالتان -هذا مبدئياً-: حالة يرث بالفرض فله السدس، فلو أن الفروض استغرقت جميع التركة وعالت وفيها جد، فإننا نعطيه السدس ليأخذ حقه فرضاً، وتارة يرث بالتعصيب، كهذا السدس الثاني الذي هو طعمة، فإذا أخذ أصحاب الفروض فروضهم، وبقي شيء زيادة عن السدس أخذه تعصيباً.
أي أنه إذا بقي السدس أخذه فرضاً، وإذا بقي أقل من السدس يفرض له السدس ويكمل له وتعول المسألة من أجله.
والفقهاء رحمهم الله لما اختلفوا في الجد منهم من قال: الجد أب.
وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والمعمول به حتى الآن، فيحجب الإخوة، وغير الأحناف يقولون: الجد والإخوة يرثون جميعاً لكونهم معه سواء في مدى قرب الجد والإخوة من الميت.
كم بين الجد والميت من واسطة؟ واحد وهو الأب، وكم بين الأخ لأب وبين الميت؟ واحد وهو الأب، إذاً قرب الجد من الميت كقرب الأخ من الميت، فقالوا: الجد يقاسم الإخوة.
وإذا لم تبق الفروض شيئاً ماذا يفعل؟ قالوا: إذا لم تبق الفروض شيئاً للجد فيفرض له السدس، وتعول له المسألة، ويسقط الإخوة.
الخلاصة: الجد مع غير الإخوة له ثلاث حالات، فيرث: إما فرضاً وإما تعصيباً، وإما فرضاً وتعصيباً معاً كهذا الحديث.
فإذا وجد الإخوة فهو بالأحظ من ثلاث حالات؛ الحالة الأولى: يفرض له السدس إن لم تبق الفروض شيئاً، فبدلاً من أن نقول: هو عاصب، والعاصب ليس له شيء.
نقول: يدخل الجد في خط أصحاب الفروض، فنفرض له السدس.
وإذا كانت الفروض أخذت نصف التركة، وبقي النصف، فهنا الباقي يقتسمه الجد مع الإخوة بحسب الأحض من ثلاث حالات: إما أن يأخذ ثلث الباقي إذا كان ثلث الباقي أحظ له من سدس الجميع، أو يقاسم الإخوة كواحد منهم، أو يأخذ سدس المال إذا كان أحظ له من المقاسمة وثلث الباقي.
هذا مذهب الجمهور على أنه مع الإخوة يخير، ويعامل بما هو الأحظ من أمور ثلاثة كما تقدم ولو كانوا خمسة إخوة وهو السادس فأيهما أحسن: أن يأخذ ثلث الباقي أو يقاسم ويأخذ سدس الباقي؟ إذا قاسم سيكون نصيبه واحداً من ستة مما أبقت الفروض، وإذا قال: لا أريد مقاسمة وآخذ ثلث الباقي فهو أحسن له، وإذا كان الباقي سدس المال، كأن تكون الفروض استغرقت التركة وما بقي إلا السدس فهل يأتي الإخوة ويقاسمونه في هذا السدس؟ لا، بل يقال: هذا السدس فرضه وليس للإخوة شيء.
ونرجع ونقول كما قال الشوكاني: وللعلماء في الجد أقوال كثيرة، من أراد الاستيعاب والتوسع فليرجع إلى كتب الفن.
وأحسن ما بين أيدينا من الكتب كتاب العذب الفائض، وهو من الكتب القديمة، أما الكتب الجديدة فهي -كما يقال- قطرة من بحر، لن يأتوا بشيء من صناديقهم، ولكن أخذوا من تلك الموسوعات القديمة الموجودة عن سلف الأمة.
وبالله تعالى التوفيق.