يذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي أيوب هذا في كتاب البيوع، باب شروطه وما نهي عنه، فيقول لنا أبو أيوب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من فرق بين والدةٍ وولدها فرّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) ، والحديث فيه النهي عن أن يُفرِّق السيد بين الأمة وبين ولدها في البيع، فما علاقة الأحبة، وعلاقة يوم القيامة؟! وكان يمكن أن يقال: لا تُفرِّقوا بين الأم وولدها، أو لا ينبغي التفريق، ولكن مصداقاً لقوله سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧] ، ولأن دين الإسلام هو دين الرحمة، ومصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم:(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، فهذه أم معها ولدها، وكم يصعب على الأم أن تفارق ولدها؟! ونعلم ما حصل في قصة أصحاب الأخدود، وفي قصة المرأة التي جاءت إلى عائشة وهي تحمل طفلتين فأعطتها عائشة تمرة، فشقتها نصفين، وأعطت كل طفلة نصفاً واجتزأت هي بالنواة تمصها، وذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها:(لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) ، وتلك المرأة في قصة أصحاب الأخدود، فحينما ظنت المرأة بولدها فأنطقه الله وقال لها:(يا أماه! قعي في النار ولا تتقاعسي) ، وعندما ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عطف تلك الأم على ابنتيها قال:(أترون أن هذه الأم تلقي بولديها في النار؟ قالوا: لا، قال: لله أرحم بعباده من هذه الأم بطفليها) .
ثم نأتي إلى عوامل جانبية أخرى، فإن الرحمة في الإسلام لم تقف عند الإنسان، فقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها، ودخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته، فالإسلام دين الرحمة، ودين العاطفة، ودين إيقاظ الضمير.
ثم ننتقل خطوة بعيدة، وطويلة جداً، ونقرع الطبل في آذان أولئك الآباء والأمهات الذين يقع بينهم النزاع والشقاق لأمور شخصية بينهما، وتقع المصيبة على الأولاد، وينتزع الأولاد من الأم قهراً، لا لشيء إلا لمضارتها، فنقول:(من فرّق بين الأم وولدها) ، وإن كان ذلك في المبيع فكذلك في الحضانة، وللقاضي أن ينظر في مصلحة الطفل أهي عند أمه، أم هي عند أبيه، أم عند شخص ثالث؟ لأن مصلحة الطفل مقدمة، أما الأبوان فقد تفرقا وسار كل في طريقه، وهذا لا يزال ناشئاً، فأي مكان يكون أصلح له فيضعه القاضي فيه.
والمجال في هذا الموضوع واسع، ولكن يهمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -مع كثرة مسائل التشريع، ومسئوليات الأمة، والتبليغ في الحضر والسفر، وفي السلم والحرب- لم يُهمل هذا الجانب الإنساني، بل قال:(من فرّق بين الأم وولدها) مع أن كليهما مملوك، وقد يكون باقياً على شركه وعلى كفره، فالناحية الإنسانية والرحمة ليست قاصرة على كافر ومسلم، بل شملت -كما أشرنا- الحيوان، وهكذا يرطب النبي صلى الله عليه وسلم القلوب ويبللها بالشفقة والرحمة.
وهنا يأتي الفقهاء ويفرعون ويقعدون، ويأتون بمسائل، منها: متى يكون ذلك؟ قالوا: إذا كان الطفل دون البلوغ، أما إذا بلغ فأصبح رجلاً فيذهب حيث شاء، فقد يتركها ويذهب عنها، أما دون البلوغ فعاطفة الأمومة أشد إليه منها حينما يكبر، فغداً يكبر ويتزوج امرأة ولا يدري عن أمه شيئاً، أما دون البلوغ فالعاطفة مرتبطة به أكثر، وهنا سواءً كانت الأم مسلمة أو مشركة وهي أمة مملوكة، وكذلك الولد، علماً بأن الولد يُلحق بأفضل دين الأبوين، فلو أن نصرانياً تزوج مشركة، حكم للولد بدين النصارى؛ لأنه خير من الوثنية، ولو أن مسلماً تزوج كتابية، حكم للولد بدين الإسلام؛ لأنه أفضل من دين النصرانية.