أقول هذا يا إخوان! لأننا لا زلنا أيضاً نسمع هذا من بعض الشباب ومن بعض الذين يرون أنهم مجتهدون وأنه لا حاجة إلى الأخذ بمذهب من المذاهب، وأنهم يرون أن هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وسلم للوجوب، ولا يصح إلا هو، وقد سبق لي في الجامعة الإسلامية تدريس هذا الباب في كتاب بداية المجتهد لـ ابن رشد، وهو كتاب منهجي في الفقه المقارن بين المذاهب الأربعة، وأطلت في هذه القضية وقد كنا نأخذ في الحصة مسألة ونمضي عنها، فأخذت في هذه المسألة مع الإخوان أربع حصص، وأخيراً قال لي بعض الإخوة -وهو موجود إلى الآن-: أراك أطلت في هذه المسألة، فقلت له: اليوم انتهيت، ولكني أريد منكم جميعاً إذا أوى أحدكم إلى فراشه وتوسد الوسادة أن يغمض عينيه ويوقد قلبه وضميره، وليتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم على المروة:(لو استقبلت من أمري)(لو لم أسق) ، ويتصور أن خلفاءه الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كانوا حوله يسمعون هذا المقال، ثم بعد ذلك كل منهم في خلافته يأتي مفرداً، ويتساءل: عن الذين سمعوا ذلك مشافهة من رسول الله، وعن الذين وجدوا ذلك خطاً مكتوباً في صحف، أي الفريقين أجمع للمعنى، الذي سمع من شفتي رسول الله بأذنيه ووعى ذلك وحضر وشاهد، أو الذي أخذ ذلك من أوراق صامتة وجد ذلك مكتوباً فيها؟ لا شك أن الذين شاهدوا رسول الله كانوا هم أوعب وأدعى للفهم والإدراك منا نحن المتأخرين، ثم ليتساءل: أينا أسرع إجابة لرسول الله هل هم هؤلاء الصحب الكرام، أو نحن معشر المتأخرين في القرن الخامس عشر؟ وأينا أشد تمسكاً واتباعاً لرسول الله نحن أو هم؟ والله! إنه سيجد قطعاً أنهم هم أولى وأنهم أشد إدراكاً، وأنهم أسرع متابعة لرسول الله، فإذا ما تصور ذلك فليسأل نفسه وسيتلقى الجواب من داخله لا من الكتب ولا من الخلاف ولا من المنازعات، ولما كان الغد إذا ببعض الإخوان أذكر اسمه وأعرفه شخصياً يدخل ويقف عند الباب، ولم تكن عادة الطلاب أن يستأذنوا، فقال: عندي كلمة أقولها، قلت: ادخل واجلس ثم تكلم، قال: لا، بل أقولها من هنا، قلت: خلصنا، قال: سامحك الله يا أستاذ! قلت: آمين، ولكن هذه كلمة يقال وراءها شيء، قال: البارحة ما خليتني أنوم، قلت: يا أخي! صحح الكلام وقل: أنام، ليس فيه نام ينوم، وإنما نام ينام، قال: لا، هذه لغتنا، فقلت: بكيفك أنت ولغتك، لكن لماذا لم تنم؟ قال: لأنني فعلت كما قلت، ومنذ أن استحضرت ذلك لم أستطع النوم؛ لأنني تحيرت هل نحن أشد حباً لرسول الله؟ وهل نحن أكثر فهماً من أصحاب رسول الله؟ وهل نحن أشد اتباعاً لرسول الله من خلفائه الراشدين؟ لا والله! إذاً: الأمر فيه شيء، فقلت له: وما الذي وصلت إليه؟ قال: وصلت إلى أن في عقولنا شيئاً، قلت له: نعم، في عقولكم عدم الاتباع لسلف الأمة، والأخذ بما عليه العلماء.
ويهمني أيها الإخوة! في هذا الموقف ما قاله جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من معه في هذا الحج المبارك ممن لم يسق الهدي أن يتحلل، ويجعل إحرامه بعمرة، ثم بعد ذلك يحرم في اليوم الثامن ويكمل حجه.
وقد أطلت القول في هذه المسألة بالذات لما نراه ونسمعه من بعض الإخوان الذين يجدون في أنفسهم الاجتهاد والعمل بالحديث وعدم التقيد، ويقولون لغيرهم: هذا مقلد، ونقول: لا، والله! إن من أخذ بأقوال الأئمة فهو متبع وليس بمقلد، وفرق بين التقليد والاتباع، فالمقلد هو من أخذ كلام من يقلده من غير أن يعلم ما هو دليله عليه، والمتبع هو من يختار قول العالم مع علمه بدليله فيه.
إذاً: في تلك الحجة من لم يسق الهدي تحلل ولبس ثيابه، وعاد حلالاً كما لو كان في بلده قبل المجيء إلى مكة، ومن كانت معه أهله حلت له.