[أمر الإمام بتخفيف الصلاة وعلته]
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: صلى معاذ بأصحابه العشاء فطوَّل عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن تكون -يا معاذ- فتاناً؟ إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، و (سبح اسم ربك الأعلى) ، و (اقرأ باسم ربك) ، و (الليل إذا يغشى)) ، متفق عليه، واللفظ لـ مسلم] .
حديث معاذ هذا أصل في صلاة الجماعة، وفيما يجب على الإمام.
ومعاذاً رضي الله تعالى عنه هو معاذ بن جبل الذي قال صلى الله عليه وسلم في حقه: (أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ) ، ومناقب معاذ كثيرة جداً، حتى جاء في بعض الآثار: (آمن معاذ حتى خاتمه) ، ومعاذ له في الصلاة شئون عديدة، وله موقف في التشريع، فقد قال ابن كثير وغيره: أحيلت الصلاة ثلاث مرات.
الأولى: قولهم: كنا إذا أردنا الصلاة آذن بعضنا بعضاً -أي: أعلم- فقلنا: نتخذ وسيلة، فاقترح قوم ناقوساً، وقوم بوقاً، وقال قوم: نجعل ناراً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا.
فجاء عبد الله بن زيد ورأى أنه عُلِّم الأذان في المنام، فأُذِّن للصلاة، فهذا أول شيء.
الثانية: كانوا يصلون إلى بيت المقدس، ثم تحولوا إلى الكعبة.
الثالثة: كانوا يصلون جماعة، فإذا جاء مسبوق سأل المصلين حال صلاتهم: كم صليتم؟ فيشيرون إليه بمقدار ما صلوا ركعة أو أكثر، فيكبر ويصلي ما فاته بسرعة، ثم يصحب الإمام حتى يسلم معه، فقال معاذ: والله لن آتي الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا دخلت معه فيها فجاء مرة مسبوقاً، فكبر ولزم الإمام، فلما سلّم وعرف ما فاته قام يقضيه بعد السلام، فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سن لكم معاذ، فهكذا فاصنعوا) .
فـ معاذ بسببه حصل تشريع في الصلاة، وهو صاحب رأي، وله أمور أخرى في اتباع الجماعة وسماع النداء، وأنا أسمي معاذاً بعثة تعليميةً متنقلةً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خلّفه في مكة بعد الفتح يعلمهم الإسلام، وعمر رضي الله تعالى عنه بعثه إلى الشام يعلم أهلها الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن يعلم أهلها الإسلام.
ففي هذه الحادثة صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وذهب إلى قومه في قباء ليصلي بهم، فكبَّر وقرأ الفاتحة، ثم استهل بسورة البقرة، ورآه رجل كان معه ناضحان فأرسلهما ودخل في الصلاة، وبعض الروايات فيها: (كنت أسقي ماءً، فجئت ودخلت في الصلاة، فلما بدأ بسورة البقرة علمت أنه لن يركع دون إنهائها، فتركته وأتممت صلاتي) ، وسواءٌ أكان انصرافه عن الإمام للماء، أم كان للناضحين، أم كان لتعبه طول النهار.
فعلم أن معاذاً صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه مفعمة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مانع أن يُصلي الليل كله لأن حياته كلها عبادة.
فعرف الطريق واختصره من بدايته، وذلك بانصرافه عن الصلاة مع معاذ.
فقيل لـ معاذ: إن فلاناً تركك وذهب! قال: إنه رجل منافق.
فبلغت الكلمة هذا المسلم فعظمت عليه، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكى معاذاً بعد أن رماه بالنفاق، وبين للنبي صلى الله عليه وسلم ما حدث، فاستدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال: (يا معاذ! أتريد أن تكون فتاناً؟) ويا معاذ! ويا من يعرف الحلال والحرام! ويا من يعرف شئون الناس! أتريد أن تكون فتاناً؟! فنحن ما جئنا للفتنة، إنما جئنا لنطفئ الفتنة.
وهل أمرهم بمعصية؟ لقد سماه فتاناً لكونه أطال الصلاة.
وعثمان رضي الله تعالى عنه كان يقوم الليل بسورة الفاتحة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ البقرة والنساء وآل عمران ثم يركع، فهل في هذا فتنة؟ لا.
وإنما كان التطويل هنا فتنة لأن صلاة معاذ لها تعلق بالآخرين؛ إذ إنه كان الإمام، ولذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء) .
قوله: (إذا أممت الناس) الخطاب خاص لـ معاذ، وهو عام في كل إمام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن أم الناس فليخفف.
وقد بين صلى الله عليه وسلم علة ذلك بقوله: (فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة) ، وكصاحب الماء أو صاحب الناضحين، وقد يكون هناك إنسان له سياره محمّلة والناس ينتظرونه، أو لديه مريض ويريد أن يذهب به، أو يريد أن يرى حالته، أو أي حاجة من حاجات الناس، أو هناك إنسان يقوم في الصف ولا يستطيع أن يطيل القيام.
إلخ.
فعلى الإمام أن يراعي حالة الناس، وقد جاء ما هو أخص من ذلك، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي؛ مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه) .
فالأم حين تسمع طفلها يبكي هل ستصلي أم تُسكت ولدها؟ إن قلبها يطير، ولهذا جاء عن أبي قتادة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب) ، وذلك حتى لا تبكي وتصيح وتشوش عليه، فحملها ووضعها أهون من أن يسمعها تبكي.
قال: (إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها، وسبح اسم ربك الأعلى، واقرأ باسم ربك) ، وهنا (اقرأ) في آخرها سجدة، وهذا رد على من يقول من المالكية: لا يجوز للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة.
ولكن يقولون: إذا كانت القراءة سرية وسجد فإن من خلفه لا يعلمون سبب سجوده، أما إذا كانت في الجهرية وسجد فلا مانع؛ لأنهم يسجدون تبعاً له.
فهذه السور على الأئمة أن يراعوها، أما إذا كان هناك جماعة متفقون على إطالة الصلاة، وكلهم يعرف ذلك فلا بأس، ويوجد هناك جماعات في بعض البلدان لهم مساجد خاصة، ويجتمعون فيها، ويطيلون الصلاة فيها، وسمعت من شخص جاء إلى المدينة وأنه رُشِّح أن يكون إماماً، فاشترط أن يسبح في الركوع ثلاث عشرة مرة، وفي السجود ثلاث عشرة مرة فرُفضت إمامته، وقالوا له: أنت لا تصلي لوحدك؛ فإن الناس وراءك ويسبحون ثلاث تسبيحات فقلت له: لماذا تشترط هذا؟ قال: أريد أن أهرب من الإمامة.
والذي يهمنا في حديث معاذ رضي الله تعالى عنه أن الإنسان إذا كان يعمل عملاً متعلقاً بالآخرين فيجب عليه أن يراعي حالة الآخرين، سواءٌ أكان في صلاة، أم في غيرها.
وقصة الرجل الذي انفرد وصلى وحده يمكن أن نضاف إلى أدلة من يقول: إن الجماعة ليست شرطاً في صحة الصلاة لأن هذا الذي دخل مع الإمام، ثم رأى الإمام طول فانفرد عنه هل استأنف الصلاة من جديد، أو بنى على ما كان؟ الذي عندنا أنه خفف صلاته وانفصل عن الإمام، وأكمل تبعاً لما تقدم من تكبيرة الإحرام ودخوله مع الإمام.
فهل هذا يكون عذراً أو يكون نفاقاً؟ لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ دعواه النفاق على هذا الرجل.
الشيء الآخر أيضاً أنه لا ينبغي لمسلم أن يرمي مسلماً بلقب كهذا، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن لعن المسلم، وعن نعته بالكفر، بل قال: (من قال هلك الناس فهو أهلكَهم) ، أو (فهو أهلكُهم) ، (فهو أهلكُهم) : أي أشدهم هلاكاً.
و (فهو أهلَكهم) بالفتح: أي هو الذي أهلكهم، وهم ليسوا بهالكين.