وقوله صلى الله عليه وسلم:(ومنى كلها منحر) فيه دليل على أن لكل حاج أن ينحر محله، وقد جاء في بقية الحديث:(فانحروا في رحالكم) ولكن هل ينطبق هذا الحديث علينا الآن؟ لأن صورة النحر في ذلك الوقت لم تكن على ما عليه الناس الآن، فقبل وجود المذبح أو المسلخ الآلي، كنت إذا مشيت في طرقات منى تطأ على أغنام قد أريق دمها وتركت، وهذه الأغنام التي أريق دمها وتركت في الشارع مع الحرارة بعد ساعات ستتغير، فكانت القلابات تمشي في الطرقات، وعمال البلديات يجمعون ويرمون فيها المخلفات حتى يستطيع الناس أن يمشوا، وأما في السابق فقد كان ينحر الهدي ولا يلقى منه مقدار درهم واحد في الأرض، بل كانوا إما أن يأكلوا ويطعموا منه، وإما أن يشرقوه وينشروه على الصخور والحبال، ولذلك سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا ينحرون الهدي إبلاً أو بقراً أو غنماً فيأكلون ما يأكلون، ويطعمون من يطعمون، والباقي يجزئونه ويشطرونه إلى أوصال، ويشرقونه على الحبال أو على الصخور، حتى إذا انتهت أيام منى كان هذا اللحم قد جفت رطوبته وأصبح قديداً، فيجمعونه في أوعيتهم ويذهبون به إلى بلادهم.
إذاً: لم يكن النحر في منى في ذاك الوقت يؤذي الساكن أو المار أو المقيم في منى، وإنما كانوا يحافظون على ذلك، حتى لا يتأتى منه إيذاء للآخرين؛ لأن أنعام الهدي الأساس فيها أن تذبح وتسلخ وتقطع وتعطى للمساكين، ولا يبقى منها شيء، حتى جلودها وجلالها كما قال صلى الله عليه وسلم لـ علي:(ادع الجزارين وتصدق بجلودها وجلالها) والجلال هي الأقمشة التي كانوا يزينون بها الهدي، أي: يكسونها بها من باب التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، كانوا إذا خرجوا من المدينة غطوها بهذه الأقمشة من باب الزينة، فإذا انسلخوا من المدينة وخرجوا من ضواحيها جمعوها وحفظوها حتى لا تؤذى أو تشقق، فإذا ما أقدموا على مكة ألبسوها تلك الجلال، فإذا جاءوا عند النحر أخذوها عنها حتى لا يلوثها الدم، ثم يتصدقون بها، وكانوا في السابق يجمعون تلك الجلال، ويعملون منها كسوة للكعبة، فإذا أتى من يقوم بكسوة الكعبة على حسابه، تكون هذه من باب الصدقات التي يتصدق بها، فكانوا يتصدقون بكل شيء حتى الجلود.
وكان اليوم الثاني هو يوم الرءوس، أي أنهم كانوا يأخذون رءوس الأنعام التي لم يأكلوها في أول يوم لأن اللحم كان متوفراً، فإذا انتهى اللحم رجعوا إلى الرءوس التي كانوا قد تركوها.
إذاً قوله:(نحرت هاهنا ومنى كلها منحر) هذا فيما لو كان الأمر على ما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الآن مع كثرة الناس ووفرة الهدايا والذبائح، وعدم تحري الناس فيما ينبغي أن يكون عليه الهدي من سلامته من العيوب، بأن لا يكون فيه عجفاء ولا معيبة ولا غير صالحة للأكل، فقد جاءت هذه المذابح الجديدة على هذا النظام الموجود، فمن استطاع أن يذبح بنفسه في تلك الأماكن فهو أولى، ومن لم يستطع وتركها للمسئولين أو أنابهم في الذبح عنه فلا مانع في هذا.
وكذلك (وفجاج مكة) لو أن إنساناً نزل بين مكة ومنى وسكن هناك، وكان إذا جاء المبيت جاء إلى منى وإذا جاء وقت الرمي جاء إلى منى، ثم يرجع إلى ذلك المكان، وفي وقت الذبح ذبح هديه في مكانه، فلا مانع، وإذا كان يسكن في مكة ونزل به إلى بيته في مكة فلا مانع، إذا كان ما زال في محله الزماني، أي: إذا كان في يوم العيد وأيام التشريق، والله تعالى أعلم.