للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أنواع شكر النعمة]

يقولون: شكر النعمة إما أن يكون بعين النعمة، مثل إذا أنعم الله عليك في مزرعتك بثمار وخيرات، فشكر تلك النعمة أن تطعم المحروم منها، وأنتم تعلمون قصة أصحاب الجنة وما كان يفعله أبوهم، ثم جحدوا ذلك وتعاهدوا: {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:١٧-١٨] إلى قوله: {أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} [القلم:٢٤-٢٥] ، فجحدوا النعمة التي كان أبوهم يشكرها، وكان يستثني للمساكين حقهم، فلما جاءوا وبخلوا بها: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:١٩] .

وتعلمون قصة صاحب المزرعة التي جاءت في حديث: (كان رجل يمشي في فلاة من الأرض، فمرت سحابة فسمع صوتاً يقول: اذهبي فأمطري واسقي مزرعة فلان! انظر الحديث (في فلاة) يعني: ليس عنده أحد حتى يتوهم بأن هذا الصوت جاء من يمين أو يسار- فمشى في ظل السحابة حتى جاءت إلى حرة ووقفت وأمطرت، فتجمع الماء من الحرة في شرجة، وتتبع الماء فإذا رجل يحول الماء في حياض مزرعته، فقال له: يا فلان! فقال: كيف عرفت اسمي وأنت لست من أهل الديار؟! قال: أخبرني ماذا تصنع في مزرعتك؟ قال: وما شأنك؟ قال: الذي أسمعني اسمك، قال: وماذا سمعت؟ قال: كذا وكذا، قال: نعم أما إني أحصد الثمر وأقسمه ثلاثة أقسام: قسم أقتات به أنا وعيالي طيلة العام، وقسم أرده فيها بذراً، وقسم أتصدق به، قال: بهذا سقيت) .

إذاً: هناك: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم:١٧] ، {وَلا يَسْتَثْنُونَ} كان الجزاء: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} ، وهنا صاحب المزرعة لما كان يقسمها أثلاثاً ويتصدق بالثلث كان الجزاء أن سقاها الله بالسحابة، إذاً: شكر النعمة قد يكون من عينها.

ولهذا يقولون أيضاً: من شكر النعمة بعينها أن تعين أخاك فيما تعرفه وهو لا يعرفه وفي الحديث: (وأن تعين الرجل على دابته فتحمل له متاعه عليها صدقة) ؛ لأنه في حاجة إلى نعمة العافية التي عندك فتستخدمها في حمله على الدابة، تفيض عليه بزائد طعامك، بزائد مالك، تنصحه، تعلمه، والرسول صلى الله عليه وسلم مر على رجل يسلخ شاة وهو لا يعرف السلخ فقال: (ألا أريك! وكشف عن كمه صلى الله عليه وسلم وأدخل يده الشريفة بين الجلد واللحم وأدارها وقال: هكذا فافعل) ، لا يعلم الناس كل شيء، فما تحسنه علمه أخاك، وكذلك طالب العلم إذا أنعم الله عليه بشيء فليبذله ولا يكتمه، وهكذا إذا استنصحك إنسان وأنت تعلم الحقيقة فعليك أن تنصح وأن تبين، وهكذا قد يكون شكر النعمة بعينها وقد يكون باللسان إلى غير ذلك، ومن ذلك السجود لله شكراً على هذه النعمة.

ومما وقفنا عليه: أن النجاشي رضي الله تعالى عنه استدعى المهاجرين الأولين الذين كانوا عنده فجاءوا إليه، فلما دخلوا عليه وفداً فزعوا لما رءوه في ثياب رثة، حاسر الرأس، وجالساً على التراب، وليس على فراش، فقال له جعفر: ما هذا أيها الملك؟ ماذا حدث؟ فقال: إن نبيكم محمداً لقي عدوه من العرب بأرض يقال لها بدر، وأنا أعرف ذلك الوادي، فهو كثير الأراك، وقد كنت أرعى به إبلاً، وقد نصره الله على عدوه، وإن مما أنزل على عيسى عليه السلام: إن الله يحب من عبده إذا أحدث له نعمة أن يحدث له تواضعاً وشكراً، فهذا الذي تراه مني تواضعاً لله وشكراً لله على نصره محمداً على عدوه، ففرح الصحابة، وقد كانوا خائفين من حدوث شيء.

إذاً: شكر النعمة بالتواضع وبالسجود وبإظهار المذلة والفاقة والحاجة أمر قديم مما أنزل على عيسى وعلى غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.