[حكم التيمم لمن يخشى على نفسه الهلاك من استعمال الماء]
[وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل:{وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[النساء:٤٣] قال: (إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله والقروح فيجنب، فيخاف أن يموت إن اغتسل، تيمم) رواه الدارقطني موقوفاً، ورفعه البزار، وصححه ابن خزيمة والحاكم] .
هذه قضية من العقد في باب التيمم، يقول تعالى:{وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ}[النساء:٤٣] الآية، فبين أن الإنسان إذا كان على سفر ولم يجد ماء فإنه يتيمم، لكن إن كان واجداً للماء ولم يقدر على استعماله، فـ ابن عباس يقول: إذا كانت بالرجل الجراحة، فيجنب، ويخشى على نفسه إن هو اغتسل الهلاك -أي: الموت- بسبب الجراح؛ فإنه يتيمم.
ولكن إذا كانت الجراح مع استعمال الماء ليس فيها موت، ولكن فيها إيلام، وتأخير برؤ جراحه، وإذا لم يكن به جراح بالكلية، ولكن الماء شديد البرودة، والجو بارد لا يقوى على برودة الماء مع برودة الجو، فهل يتيمم أم عليه أن يغتسل من جنابته في شدة البرد مع برودة الماء؟ تحمل برودة الماء في برودة الجو تختلف فيه أجساد الناس، فبعض الناس قد يزيح الثلج عن وجه الماء ويغتسل، وبعضهم لا يستطيع حتى أن يغسل وجهه، وقد كان هناك أعرابي مسافر، فنزل في بعض منازل سفره فوجد غديراً فيه ماء، ومن شدة البرد تكونت طبقة من الثلج على وجه الماء، فجاء هذا الأعرابي وخلع ثوبه، وأزاح الثلج عن الماء ونزل فاغتسل، وخرج ولبس ثيابه، وكان معاوية بن أبي سفيان يرى هذا الرجل، فأُعجب بقوته وتحمله، فاستصحبه معه، وكان شاعراً، فمدح معاوية بمدائح وحي الطبيعة: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب فقالوا: ويلك كيف تمدح أمير المؤمنين بهذا المدح؟ فقال: اتركوه، هذا خير ما يعلم؛ لأن الكلب عنده وفي، والتيس في قراع الخطوب أقوى من الحيوانات، فهذا ما يشاهد من بيئته، فلما أخذه معه وعاش عيشة الترف وتثقف بالمجتمع والحياة المتحضرة تغيّر، فهو القائل: عيون المها بين الرصافة والجسر قتلنني من حيث أدري ولا أدري ففرق بين التيوس والكلاب، وبين عيون المها وقتلنني، فلما رجع معاوية من رحلته إلى الحج مرة أخرى ومعه هذا الرجل ونزلوا في ذاك المنزل وفي شدة البرد، ناداه معاوية وقال: هلم! تذكر وقت كذا عندما اغتسلت هنا، قال: نعم، قال: فافعل الآن! وقال: لا إن البرودة تقتلني، قال: لماذا فعلت ذلك في العام الماضي؟ قال: العام الماضي كنت في البادية، أما الآن فقد عشت معك في الرفاهية والنعيم، وفي الدفء، فلا أقوى عليه الآن.
إذاً: التحمل لشدة برودة الماء أمر نسبي، وليس كل إنسان يقدر عليه، لكن إن عرف من نفسه أن ذلك يضره فلا بأس بالتيمم.
ونأتي إلى قصة عمرو بن العاص عندما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فلما في طريقه وقد دنا من العدو احتلم، فلما أصبح ذكر ذلك لأصحابه، ثم تيمم وصلى بهم، وهم مأمورون باتباعه لأنه أميرهم، فقالوا: كيف تصلي وأنت جنب؟ قال: أنا أميركم وأنا المسئول، فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! عمرو صلى بنا وهو جنب، تيمم ولم يغتسل، فقال له صلى الله عليه وسلم:(أصليت بأصحابك جنباً يا عمرو؟ قال: بلى، قال: ولماذا؟ قال: يا رسول الله! إن الليل شديد البرد، والماء شديد البرودة، وأخشى إن اغتسلت به هلكت، والله يقول:{وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ}[النساء:٢٩] والعدو قريب منا، فخشيت إن أنا أوقدت ناراً لأدفئ الماء أن يشعر بنا العدو، فتيممت، فتبسم صلى الله عليه وسلم وأقر فعله، ولم يأمره بإعادة تلك الصلاة) .
إذاً: قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: إذا كان الرجل به الجراحة في سبيل الله، فأجنب، فخشي إن هو استعمل الماء -سواء كان لبرد أو لغيره؛ لأن الجراح قد تتأذى بالماء ولو لم يكن بارداً- أن يهلك، فإن له أن يتيمم، يقاس على ذلك بعض الأمراض الجلدية التي لا تقبل الماء، كأنواع الجدري -عافانا الله منه- أو ما يسمى (بالعنقز) عند بعض الناس، وهي حبوب صغيرة تظهر على الجلد فيها ماء قليل، وتغيّر الجلد، ولا يستطيع صاحبه أن يستعمل الماء؛ لأنه ينشر الداء على الجلد.
إذاً: من أجنب وخاف على نفسه الهلاك باستعمال الماء، سواء بسبب جراح، أو بسبب شدة البرد وبرودة الماء وهو لا يقوى على ذلك، ولا يستطيع أن يدفئ الماء، فحينئذ يكون له حق التيمم.
لكن هل هذا في جميع الحالات أم أنه في السفر فقط؟ لأن بعض العلماء يمنع التيمم للجنابة في الحضر، لكن إذا كان لمرض فهذا يستوي فيه الحضر والسفر، أما إذا كان لعدم الماء فيقل ويندر أن يعدم الماء في الحضر، قد يعدم في البادية والصحراء، لكن في الحضر هو محل إقامة الناس، والناس لا يقيمون إلا على الماء، والله تعالى أعلم.