[سبب الاضطباع والرمل]
ويقولون: إن سبب الاضطباع والرمل هو ما كان من المشركين حينما قدم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، وبعضهم يسميها: عمرة القضاء، وهي: العمرة التي جاءت بعد صلح الحديبية، وصلح الحديبية كان في السنة السادسة، حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام أنه قادم إلى البيت معتمراً، فأخبر أصحابه، فخرجوا معه، ولما علم المشركون بمجيئهم، استكثروا على أنفسهم أن يدخل المسلمون عليهم مكة بدون إذن ولا علم منهم، واعتبروا أن ذلك عنوة وعدم مبالاة، فخرجوا ليصدوهم عن البيت.
فلما علم صلى الله عليه وسلم أن المشركين قد خرجوا ليصدوهم قال: (من رجل يدلنا على الطريق بعيداً عن مواقعهم؟) لأنهم خرجوا ليصدوهم من الطريق المعهود، فقام رجل وقاد الركب إلى أن وصلوا إلى الحديبية من غير الطريق المعروف للمار إلى مكة.
والحديبية تقع على مشارف حدود الحرم، فنزلوا بخيامهم في الحل، وكانوا يصلون الصلوات في الحرم؛ لأنه ليس بينهما فاصل كبير، وقضية الحديبية قضية طويلة معروفة، وكانت في الواقع فتحاً مبيناً، وأنزل الله سبحانه وتعالى فيها سورة الفتح، وتم فيها الصلح والمفاهمة بين المسلمين والمشركين، وكان من ضمن بنود هذا الصلح: أن يرجع المسلمون من مكانهم دون أن يدخلوا مكة، ولهم أن يأتوا في العام المقبل معتمرين، وتخلي لهم قريش مكة لمدة ثلاثة أيام ليعتمروا فيها ولا يزعجهم أحد، ثم بعد ذلك يخرجون ويرجعون من حيث أتوا.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التي بعدها معتمراً، فسميت عمرة القضية، أي: لما تقاضوا به في الصحيفة التي كتبت بين الطرفين، وقيل: سميت عمرة القضاء، أي: لصدور القضاء بين الطرفين، وليس من القضاء الذي هو ضد الأداء؛ لأن العمرة التي سبقت وتحللوا منها على الحدود اعتبرت لهم عمرة، واعتبرت لهم غزوة، والعمرة الثانية كانت مستقلة، وكانت بناءً على اشتراط الطرفين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، وأن تخلي لهم قريش مكة، فجاءوا ودخلوا المسجد الحرام، وجلس كفار قريش على قعيقعان وهو: الذي يطل على الكعبة من جهة الحِجْر، وقبل أن يبدأ المسلمون بالطواف جاء الشيطان إلى كفار قريش وقال لهم: أين أنتم؟ ها هم المسلمون قد جاءوا، وقد أنهكتهم حمى يثرب، وأضناهم طول السفر، فلو ملتم عليم ميلة رجل واحد لقضيتم عليهم.
وتم هذا التآمر بين الشيطان وبين أعوانه وأتباعه للقضاء على المسلمين في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، ولا يقدِّر هذا الموقف إلا القادة العسكريون؛ لأن المسلمين عزَّل، فقد اشترط عليهم أهل مكة أن لا يأتوا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيف في القراب، وهؤلاء الكفار لو تسلطوا عليهم بالنبل من فوق الجبال بل حتى ولو بالحجارة لقضوا عليهم؛ لأن موقع الكعبة في أخفض مكان في مكة، والجبال مرتفعة من حولها، كما أن موقع المسجد النبوي في أخفض مكان في المدينة، ولذا فإن السيول تأتيه من كل جانب، فلو أنهم نفذوا مخططهم لقضوا عليهم، وليس هناك موالٍ قريب ليمد المسلمين بالمدد، والرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جاء بالسلاح معه، وتركه في العيس، وترك حراساً عليه، ولكن لو انقضوا عليهم فلن يجدوا وقتاً ليأتوا بالسلاح! ولابد أن يكون هناك ضيم على المسلمين.
فكان الحل من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر المسلمين بتآمر المشركين مع الشيطان، وكما ننبه دائماً أن الغزو الفكري لا يقاوم بالقوة، ولكن تقاوم الفكرة بفكرة ضدها، وهنا فكرة المشركين أن المسلمين ضعاف من آثار حمى يثرب، وهذا كان أمراً معروفاً في الجاهلية، فقد كانوا يعتقدون في الجاهلية أن من دخل المدينة تصيبه الحمى، فإذا أراد أن يسلم من الحمى فعليه أن يقف عند بابها وينهق ثلاث مرات، فإذا ما نهق ثلاث مرات في اعتقادهم فإنها تشرد عنه الحمى، إذاً: الحمى كانت مشهورة عندهم، ويقول العلماء المتأخرون: هذا أمر طبيعي؛ لأن المدينة كانت مليئة بمياه السيول، وكانت العيون تفيض على وجه الأرض، فينتج عن ذلك غدران ومستنقعات الماء، ومستنقعات الماء في العالم إنما هي حواضن للبعوض، والبعوض هو الذي يسبب الحمى وينقلها.
إذاً: كانت المدينة موطناً طبيعياً للحمى.
فجاء جبريل عليه السلام إلى النبي وأخبره: أن المشركين قد تآمروا بكذا وكذا، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب! أنزل لي جنوداً أو أنزل لي ملائكة؟!! وإذا كان الله سينزل له ملائكة فغيره ماذا يفعل؟ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عنده السياسة الحكيمة، والفكر الثاقب، ونور النبوة، فقال لأصحابه: إن المشركين تآمروا عليكم بكذا وكذا بسبب كذا، فأروهم من أنفسكم اليوم قوة، يعني: اقلبوا عليهم ظنهم، كما يقال: اعكسوا عليهم الفكرة، فهم يقولون: إنكم ضعاف بسبب الحمى، وإنكم منهكون بسبب طول السفر من المدينة إلى مكة، فإذا رأوكم كذلك فإنهم سيطمعون فيكم ويتحقق فيكم القول، ولكن اعكسوا عليهم الفكرة، وبماذا تعكس؟ قال: (أروهم اليوم من أنفسكم قوة) وليس المراد المصارعة عند البيت، وإنما المراد أروهم القوة في عنصر العمرة، فأمرهم بالاضطباع، وهو: جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن، وطرفيه على الكتف الأيسر، يعني: شمروا، وهذه هي هيئة الإنسان الذي يريد أن يعمل، وأمرهم بالهرولة.
وبداية الطواف هو من عند الحجر الأسود، فكانوا يرملون من عند الحجر الأسود ويطوفون بالبيت من وراء الحجر إلى أن يأتوا إلى الركن اليماني، يعني: ثلاثة أركان من أركان الكعبة يقطعونها هرولة، وإذا وصلوا إلى الركن اليماني ودخلوا في ظل الكعبة وسترتهم الكعبة عن أهل مكة الذين ينظرون إليهم من المقابل، فيمشون على مهل ليكون ذلك أرفق بهم ليستأنفوا الشوط الثاني بنشاط، ولو كانت الهرولة في الأشواط الثلاثة كاملة فقد يظهر عليهم الضعف في الآخر، ولو كانت الهرولة في السبعة الأشواط لكان ذلك شاقاً عليهم، ولكن حينما تبدأ طائفة بالهرولة ثم تتبعها طائفة أخرى في الهرولة تكون الطائفة الأولى قد أنهت الشوط الأول، والطائفة الثالثة تبدأ، وإذا جاءت الطائفة الرابعة تكون الثانية قد انتهت، وهكذا تستمر الهرولة طيلة مدة الطواف، وإن كان الكل لم يهرول السبعة الأشواط، وكذلك أمرهم أن يمشوا ما بين الركن اليماني والحجر الأسود إرفاقاً بهم من أن يواصلوا الشوط كاملاً، وهكذا الشوط الثاني والثالث حتى لا يظهر عليهم الإعياء.
وهذا الأمر بالرمل التحقيق أنه كان في عمرة القضية، وكان من أجل إظهار القوة، وإحباط فكرة المشركين.
فهل السبب مستمر في الرمل أو قد زال؟ الجواب: السبب قد زال، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة سنة ثمان، يعني: بعدها بسنة واحدة، حينما طاف بالعمرة التي أهل بها من حنين عند عودته من الطائف من ثقيف رمل، ومكة فتحت في العام الثامن وهو اعتمر في نفس العام بعد الفتح، وقد أصبحت مكة في إمرة رسول الله وله عليها أمير، ومع ذلك رمل، وفي حجة الوداع سنة عشر من الهجرة حج وطاف بالبيت ورمل.
إذاً: العلة كانت موجودة في أول رمل، وبعد ذلك انتفت تلك العلة ولم تعد موجودة، فلماذا بقي الرمل إذاً؟ الجواب: سأل رجل عمر رضي الله تعالى عنه في خلافته وقال: يا أمير المؤمنين! في نفسي شيء، رملنا لما كنا خائفين، يعني: أول ما رملنا، فعلامَ الرمل الآن؟ قال: يا ابن أخي! حج رسول الله، وطاف ورمل فرملنا، أي: لم تكن العلة موجودة في الحج، ولم يكن هناك خوف ولا مؤامرة، ولكن أمر شرع فاستمرت مشروعيته.
وعلى هذا يتفقون على أن الرمل يكون في الطواف الأول الذي يعقبه سعي، وهذه قاعدة: أن كل طواف يعقبه سعي ففيه رمل، وكل طواف بدأ به الحاج أو المعتمر فإن فيه رملاً، فالذي يأتي مفرداً الحج سيطوف طواف القدوم، وله أن يسعى بعده سعي الحج ففي طوافه رمل، والذي يأتي معتمراً فإنه سيأتي ويطوف وطوافه ركن في العمرة، وبعده سعي ففي طوافه رمل.
وأما طواف الإفاضة فمن كان قد سعى قبل عرفات فلا سعي عليه، وعلى هذا لا رمل فيه، وأما طواف الوداع فلا سعي بعده وعلى هذا لا رمل فيه، وهكذا أصبح الرمل مشروعاً في أول طواف يطوفه الناسك حاجاً كان أو معتمراً، وإن كان قد انتهى سببه وانقطعت علته إلا أنه أمر شرع وداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله مع انتفاء العلة، وهي التي يقول الأصوليون: فيه الاعتراض أو الإيماء وهو بقاء الحكم مع انتفاء العلة.