شرح حديث: (العائد في هبته كالكلب ... )
يقول المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه) متفق عليه، وفي رواية للبخاري: (ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه) ] .
هذا الحديث أيضاً يتناوله العلماء باختلاف: (العائد في هبته كالكلب يأكل ثم يقيء ثم يعود يلعق من قيئه) هذه الصورة نجد أن بعض الناس يقول: يجوز أن يعود في هبته، طيب والكلب يعود؟ قال: الكلب ما عليه لا حلال ولا حرام، فإنه لما يقيء ثم يرجع ويلعق من قيئه ليس حراماً عليه.
إذاً: لا مانع أن يعود الإنسان مع التقبيح والكراهة.
والآخرون قالوا: لا، جاء اللفظ: (ليس لنا مثل السوء) فالرسول عندما يضرب المثل بكلب يقيء.
انظر الصورة! ليس بكلب يأكل ثم يترك ثم يعود لما كان يأكله، يعود لفريسته مرة أخرى، لا، وإنما يقيء، فكأن الذي وهب ما كانت هبته خالصة ولكن كأنها استخرجت منه بشدة، كالشخص الذي يقيء رغماً عن أنفه، فيكون حينئذ أخرجها بغير اختياره، أو أخذت منه كرهاً عليه، فحينئذ يتطلع إليها، وسيأتي في قضية فرس عمر رضي الله تعالى عنه: (لا تبتعه ولو بدرهم) .
وهنا الذي يعود في هبته عام في جميع أنواع الهبات، وفي كل من يهب شيئاً، حتى الواهب يهب ولده، فإذا رجع فيها شمله هذا الحديث.
والذين يجيزون عودة الأب في هبة الولد لأنه ملكه، قالوا: عودة الأب كحديث النعمان، قال النعمان: (فرجع أبي فارتجع تلك الصدقة) ، كان قد وهبه وأعطاه، فهذا مخصص لعموم من وهب، كأنه يقول: من وهب ثم رجع إلا الوالد إذا وهب لولده فرجع عن هبته فلا مانع.
والبعض يقول: لا، بشير لم يكن أمضى الهبة، بل كان عرض على عمرة أن يهب للنعمان غلاماً، وهي إلى الآن ما قبلت ولا أمضت الهبة، بل قالت: (لا أقبل حتى تشهد رسول الله) .
إذاً: عقد الهبة إلى الآن لم ينعقد، فكون بشير يرجع في هبته لولده غلاماً فإنه رجع قبل انعقاد عقد الهبة.
إذاً: فهذا الحديث يعم، وإنه ما كان قد أنفذ الهبة ولا كان قد قبضها باسم ولده؛ لأنه من حقه أن يقبض لولده الصغير، فقالوا: رجوعه ليس كالكلب يعود في قيئه؛ لأنه لم يكن قد أتم وأمضى الهبة بدليل أن زوجه عمرة قالت: لا أقبل.
إذاً ما تم القبول، هو أعطى وتولى القبض والقبول، قالت: (لا.
حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
إذاً: إلى الآن الهبة معلقة حتى يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك تخصيص للحديث، ويكون هذا الحديث عاماً في كل هبة والدا ًكان أو أخاً أو أختاً (فرجع في هبته) .
وبعضهم يقول: إنما هو في الصدقة التبرر والتطوع؛ لأن المتصدق أخرجها لوجه الله رغبة في الأجر عند الله، فلا ينبغي له أن يبطل نيته تلك وأن يفسخ عقده مع الله في تلك الصدقة، بخلاف الهبة للبشر، فإن له أن يعود فيها، ويكون الحديث على رأيهم خاص بمن تصدق بصدقة لفقير أو مسكين لوجه الله.
وتقدم لنا الفرق بين الهبة والصدقة؛ فإن الصدقة تعامل مع الله، ينتظر فيها ثواب الله، والهبة تعامل مع الإنسان ينتظر مثوبتها عند الإنسان بمجاملة أو مودة بمصانعة بتمهيد لصداقة لقضاء حاجة، هذه هي الهبة التي تدور في فلك الإنسان، من إنسان إلى آخر، ولكن الصدقة تخرج من فلك الإنسان إلى رب العزة فيتعامل مع الله.