[إمامة المرأة صورها وخلاف العلماء في ذلك]
قال رحمه الله تعالى: [وعن أم ورقة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تؤم أهل دارها) رواه أبو داود، وصححه ابن خزيمة] قدم المؤلف رحمه الله النهي عن إمامة الأعرابي للمهاجر، والفاسق، والمرأة للرجل.
ولما قدم ذلك وكان سنده واهياً، جاء هنا ليبين صحة إمامة المرأة لأهل دارها، فهذا تخصيص من ذاك العموم الذي تقدم.
وأم ورقة هذه امرأة أنصارية، وهي صحابية جليلة، وكانت تلقب بالشهيدة وهي على قيد الحياة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما عزم الخروج إلى بدر قالت: يا رسول الله! ائذن لي أن أصحبكم لعلي أداوي الجرحى وأسقي المرضى فقال لها صلى الله عليه وسلم: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) ، فلما قال لها ذلك لقبوها بالشهيدة، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي إليها ويزورها، وكانت قد جمعت القرآن، وما سمعت بامرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جمعت القرآن غير هذه الصحابية الجليلة.
ولا أستبعد من مثل عائشة رضي الله تعالى عنها لشدة حفظها أن تكون جمعت القرآن أيضاً؛ لأنها ذكرت أنها تحفظ عشرات الآلاف من أبيات الشعر.
فهذه المرأة كانت بهذه الصفة، وكانت نهاية أمرها أن قتلها غلامها وجاريتها، فكتما نفسها بخميصة لها حتى ماتت وهربا، وكان اكتشاف ذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: (ما سمعت صوت خالتي أم ورقة الليلة) ، فقد كانت كل ليلة تقوم وتقرأ القرآن، وكان عمر يسمعها، فافتقد صوتها تلك الليلة، ومن الغد دخل بيتها فلم يجدها، فدخل غرفتها فوجدها مخنوقة بالخميصة ميتة، ولم يجد غلامها ولا جاريتها.
فقال عمر: (من رأى هذين أو علم بهما فليأتني بهما) ، فأُتي بهما فقتلهما وصلبهما.
وقضيتها -من حيث هي- حادثة تؤخذ منها أحكام عديدة قبل أن نأتي إلى موضوع إمامتها.
لقد كان لها تطلع إلى الشهادة، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وغيرها أن النساء أرسلنها وافدة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني وافدة النساء إليك، وجدنا الرجال غلبونا بالجهاد، أفنجاهد؟ فقال: (عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) ، وفي الوقت نفسه صرح النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النسوة أن يشاركن في القتال، فأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تحمل الماء يوم أحد، وغيرها، وأم عطية سافرت وجاهدت، وكانت تضمد الجرحى، وتهيئ لهم الطعام.
فهذه المرأة الكريمة طلبت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأذن لها، ولم يكن الرجال يستأذنون للخروج، بل إذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج إلى الجهاد هب الجميع، والمرأة ليست من أهل القتال، كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول.
فالمرأة ليست من أهل القتال، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأذن لها لتخرج على غير العادة، فكفاها المؤنة، فقال: (قري في بيتك؛ فإن الله عز وجل يرزقك الشهادة) فبهذا الوعد لقبت بالشهيدة وهي تمشي على وجه الأرض.
وإن هذه الإشارة -والله تعالى أعلم- لعلها التي جعلت أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه يقول: (اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك في بلد رسولك) .
قالوا: يا عمر! أتريد القتال في المدينة؟ قال: فضل الله واسع.
فجاءته الشهادة في المدينة، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي المحراب.
أقول: لعل عمر لما سمع البشرى لهذه المرأة أن: امكثي في بيتك وستأتيك الشهادة -أي: في بيتك- فطِن عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا يمكن ونالها.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً وجارية.
والتدبير باب من أبواب العتق، وهو تفعيل من الدبر، والدبر: ما كان خلف الشيء، فـ (عن دبر) أي: عن خلف وعن ظهر، وعن زمن بعده.
فإذا قال شخص: يا فلان! لك هذه الدار عن دبر مني.
يعني: إذا مت فالدار لك.
أو قال: يا أولادي! أوصيكم أن إذا مت فأسكِنوا هذه الدار فلاناً.
أو يقول لغلامه: أنت حر بعد موتي فهنا تعلق العتق بموت المالك.
أي: رب المال.
وهنا السؤال: إذا كان العبد ينتظر الحرية بموت سيده، فحينها يطلب سرعة موته، فإذا اعتدى عليه بالقتل ألغي التدبير، كما أن قاتل مورثه يحرم من الميراث.
والموقوف عليه، والموصى له إذا قتل الموقِف تسرعاً لانتقال الوقف إليه، أو تعجلاً لمجيء الوصية إليه مُنِع من استحقاق الوقف، ومُنِع من الوصية.
قالوا: معاملة له بنقيض قصده؛ فإنه تعجل لأجل الميراث فنحرمه منه؛ لكي يعلم كل حريص على الميراث أنه لن ينال الميراث إذا قتل مورثه، فيكف يده حتى لا يُحرم.
ونظير ذلك أيضاً لو أن امرأة أخفت عدتها، وادعت خروجها من العدة، وتواطأت مع رجل فتزوجته قبل أن تخرج من عدتها فسخ النكاح، ولا يتزوجان إلى الأبد، وهذا التحريم المؤبد؛ حتى لا تخفي امرأة أمر عدتها، فإذا علمت أنها لن تلتقي معه إلى الأبد حافظت على العدة، ومشت في طريق مستقيم.
فـ أم ورقة دبرت غلاماً لها وجارية، فقد قالت: أنتما حران بعد موتي.
فقاما عليها بالليل وخنقاها بخميصة حتى ماتت، وهربا.
وهنا ندخل في مبحث جنائي، فأمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فطِن لافتقاد سماع قراءتها، وهكذا حق الجوار، أو أنه كان من عادته أن يعس المدينة، ونحن نعلم أمر عمر في خلافته، لقد كان يخرج ليلاً ويطوف في أزقة المدينة يتحسس أخبار الناس وحاجاتهم، ومن ذلك أنه سمع امرأة تقول لابنتها: قومي إلى الحليب فامزجيه بالماء.
فقالت: يا أماه! ألم تسمعي بمنادي عمر ينهى عن مزج الحليب بالماء؟! قالت: يا بنيتي! وأين عمر منك الآن؟ فقالت الفتاة: والله -يا أماه- لإن كان عمر غائباً فرب عمر حاضر.
وكان عمر عند الباب يسمع، ولم يقل لهما شيئاً، وقال لمن معه: اعرف لي هذا البيت.
فعرفه، ومن الغد ذهب وخطب تلك الفتاة.
ونظير هذا -والشيء بالشيء يذكر- أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يطوف بالبيت، وكانت هناك امرأة عجوز مجذومة، أي: مريضة بمرض الجذام، وهذا المنظر قد يتأذى منه الناس أو من رائحته، فمر عمر بجانبها وهمس في أذنها وقال: يا أمة الله! لو عدت ومكثت في بيتك لكان خيراً لك.
فخرجت من توها، وما أكملت الشوط، ورجعت إلى بيتها، فلما توفي عمر رضي الله تعالى عنه أُتيت فقيل لها: اخرجي.
إن الذي نهاك قد مات.
قالت: ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً أي: له حق في السمع والطاعة، فهذا هو التلاحم، وهذه هي حقيقة الإيمان.
وقد جاء عن بعض السلف أنه قال لـ حذيفة رضي الله تعالى عنه: لقد حظيتم بصحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو كنا حضرنا لما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا.
قال: يابن أخي! لا تقل ذلك، والله لاتدري إن حضرت ماذا كنت تفعل؟! والله لقد جاءت علينا ليال يخاف الواحد منا أن يخرج يقضي حاجته.
وهذا في أمر الخندق وليلة الأحزاب والشدة التي لحقت المسلمين، ثم قال: قال آخر: والله وددت أني مت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهد يوم موته.
فقال غيره: والله ما وددت ذلك، وتمنيت أن أعيش بعده لأطيعه بعد وفاته كما كنت أطيعه وهو حي.
فهذه النماذج تعطينا مدى ارتباط الأفراد بقادتهم في الإسلام، ومدى السمع والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد على وجه الأرض ملكاً من الملوك، أو رئيساً من الرؤساء، أو قيصراً من القياصرة تبلغ طاعته عند قومه عشر معشار هذا الحد.
فـ عمر سمع المرأة، ومن الغد ذهب فخطبها لولده، وكانت جدة عمر بن عبد العزيز، والشيء من معدنه لا يُستنكر.
وفي ليالي عمر وهو يعس في شوارع المدينة سمع امرأة في جوف الليل تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وليس إلى جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله تخشى عواقبه لحرك من هذا السرير جوانبه فتفكّر في حال امرأة في مغيب زوجها، فسأل عمر رضي الله تعالى عنه عنها، فقيل له: إنها امرأة فلان، وله في الغزاة ثمانية أشهر، فجاء عمر إلى ابنته حفصة وقال: أخبريني: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فاستحيت.
قال: والله -يابنيتي- لولا أني أريد أن أنظر في أمر المسلمين ما سألتك هذا السؤال.
قالت: تصبر شهراً وشهرين، وفي الثالث تتضجر، وفي الرابع يضيق ذرعها فأرسل لأمراء الأجناد: لا يغيبن زوج عن زوجه فوق أربعة أشهر.
فكان الواحد يذهب للثغر يرابط شهراً، وعليه مرابطة شهرين، فشهر في الذهاب وشهران في المرابطة، وشهر في العودة، ولا يغيب أكثر من ذلك.
فـ عمر رضي الله تعالى عنه افتقد صوت أم ورقة، فلما افتقد صوتها كان ذلك لافتاً للنظر.
يقولون عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: إنه كان له جار يهودي، وكان كل ليلة يؤذيه برفع صوته، فيمضي الإمام ولا يكلم جاره بشيء، وفي ذات يوم أصبح فلم يجد ما كان يعتاد أن يجده، وفي اليوم الثاني والثالث كذلك، فاستغرب وسأل عن جاره فقيل له: إنه مسجون.
فذهب إلى الوالي وطلب زيارته في سجنه فأذن له، ثم طلب من الوالي أن يطلقه له فأطلقه.
إمام جليل يأتي ليطلق إنساناً من سجنه، فجاء جاره وقال: أخبرني ما الذي أعلمك أني سجين؟ قال: الأمارة التي كنت تجعلها كل ليلة افتقدتها.
قال: وتسكت على ذلك، وتقابل إيذائي بأن تزورني في سجني، وأن تطلب إخراجي؟! قال: نعم.
هذا حق الجار في الإسلام.
قال: هذا دين يعامل أفراده بهذه المثابة.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
فـ عمر افتقد أم ورقة، ولم يسمع قراءتها، وليس عندها إلا غلام وجارية، فلما أصبح د