[العلة في النهي عن بيع الثمرة حتى تطعم]
فهذه مسائل زراعية أجرى الله سبحانه وتعالى -في العادة- أن يكون للأنواء وللنجوم تأثير على النبات في ثمرته وإنتاجه، فإذا صادف زرع النبات نجمه ووقته كان طيباً وأثمر ثمراً حسناً، وإذا فات نوءه فإنه قد لا يثمر بالكلية، وقد يهيج ويكون خضار وتكون أعشابه أو أغصانه ممتدة وطويلة ولكن لا توجد فيه الثمرة، وقد سمعت من خبير زراعي في المدينة هنا: أن رجلاً مر على أشخاص يزرعون الدباء، فقال لهم: لو انتظرتم إلى ما بعد الزوال، فإن الشمس تنزل في البرج الفلاني بعد زوال شمس هذا اليوم، فقالوا: ما الفرق؟ الآن ضحى، وبعد قليل زوال، واليوم واحد! فقال: علِّموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما تزرعونه بعد الزوال، وفعلاً علِّموا فكانت النتيجة أن ما زرع بعد الزوال كان إنتاجه أضعاف إنتاج ما كان قبل الزوال.
والكثيرون يعرفون أن بعض النباتات إذا زرعت في وقتها أنتجت وأخصبت وكانت ثمرتها جيدة طيبة، وإذا لم تكن في وقتها صارت شكلاً أخضر لا شيء فيها.
ويراد بالنجم هنا: الثريا، فإذا طلعت الثريا -بإذن الله- أمنت الثمار الآفة، والثمار تعتريها الآفات، والآن معروف عند وزارة الصحة العديد من الآفات التي تعتري الخضروات، وتعتري الزروع، ولها عندهم دوائر خاصة تسمى: دوائر الرش، فإذا طلع نجم الثريا فإن الآفات -بإذن الله- لا تصيب الزروع، وقبل ذلك يمكن أن تصيبها، فجاءت الأحاديث: (حتى يطلع النجم وتؤمن الآفة) .
فلا يجوز بيع الثمار حتى يمكن أن يطعم ويصلح للأكل؛ لأنك إذا اشتريته قبل أن يصلح للأكل ماذا ستصنع به؟ فإن كنت تشتريه وتجزه علفاً للدواب فلا مانع، فقد أصبح علفاً وليس بثمرة، وإن كنت تشتريه وتبقيه في أصله حتى يصلح للأكل فهذا غرر على البائع؛ لأنك عطلت شجره، وعطلت أرضه حتى تطيب الثمرة، وأنت اشتريتها فجاً بثمن ناقص، وحينما تكون ثمرة ناضجة فلها ثمن آخر، فأنت استغليت حالة البائع واستفدت منه ما لم يسمح به، فهنا لا تباع الثمرة حتى تطعم، وهذا معروف الآن في بيع الصيف، فقالوا: حتى يَتَمَوّه العنب، وحتى تصفار أو تحمار الثمرة في النخيل، وهنا هل شرط الاحمرار والاصفرار وأمن العاهة في جميع أفراد نخيل البستان، أم أنه إذا ظهر في البستان صلاح مائتين أو ثلاثمائة نخلة، باحمرار وباصفرار، وبقيت عشر أو خمس عشرة أو عشرون نخلة يجوز البيع، أم ننتظر حتى يظهر ذلك في جميع النخل؟ يتفق العلماء على أننا نكتفي بظهور ذلك في بعض النخيل، وقد تظهر في بعض النخلات عشر أو عشرون حبة في كل عشر حبات، وقد يكون بدأ ظهور الصلاح في احمرارها أو في اصفرارها، والبعض يقول: إذا وجد الصلاح في المنطقة بستان جاز بيع جميع البساتين، وهذا غير صحيح؛ لأن البساتين تختلف في سرعة نضج ثمرتها باختلاف التربة والماء، فقد تظهر باكورة الثمرة في بستان، وبعد أيام عديدة تظهر في بستان آخر مجاور له، والفرق بينهما خصوبة التربة وحلاوة الماء.
وقد كانوا إذا ظهرت الثمرة في المدينة -أياً كان نوعها- يبادرون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، علماً منهم بأنه يفرح لما يأتيهم من الخير، وأنت الآن إذا وجدت باكورة ثمرة عندك فأين تذهب بها؟ أتأكلها؟ لا ترضى أن تأكلها؛ لأنك تحب أن تريها أحبابك وأصدقاءك كبشرى، فلذة ذلك عندك أحسن مما لو أكلتها، أو تقدمها لمن تحب، أو أعز الناس عندك، فكانوا يقدمونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يفعل بها؟ كان ينظر إلى أصغر موجود في الجمع من الأطفال والأولاد أو من الغلمان ويعطيه إياها، فهم أتوا بها ليفرحوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يعطيها الصبي ليفرح بها، فكان أمراً متداولاً ومعروفاً في المدينة.
إذاً: أي ثمرة وصلت في النضج إلى حد أنها تطعم، فلا بأس ببيعها، والتعبير هنا بقوله: (تطعم) فيه إعجاز، فلم يقل: حتى تؤكل؛ لأن الأكل لا يكون إلا بعد كمال النضج، لكن المراد حتى تصلح لأن تطعم، أي: للطعم والتذوق، فمثلاً: المانجو حينما تكون خضراء فجاً لا تصلح حتى للطعم فضلاً عن الأكل، لكن إذا بدأت في النضج فيمكن للإنسان أن يطعمها وأن يأكلها، وكذلك البرتقال في أول أمره لا يمكن أن تأكل منه ولا أن تطعمه.
فقوله: (حتى تطعم) أي: حتى يبدأ فيها الصلاح ويمكن ذوق طعمها، فحينئذ يجوز البيع، ولا يختص ذلك بالنخيل والعنب، وإنما جاء ذكر النخيل والعنب في الحديث لوجوده في المدينة، وإنما ذكر اللون الأحمر والأصفر بقوله: (تحمر أو تصفر) ؛ لأن ثمرة النخلة قبل الاحمرار والاصفرار لون واحد وكله أخضر، ثم يتميز بعد ذلك بالقدرة الإلهية، وهكذا جميع الثمار في العالم دونما تحديد، وما يستجد من ثمار ملقحة أو مهجنة أو أي صفة من الصفات، فلا يجوز بيعها على الشجر كثمر إلا بعد أن تطعم، وذلك في البيع جملة، أما إذا كانت كثيرة فكما يقول الفلاحون: يخصيها أو يخففها من أجل أن تزيد الثمرة نضجاً.
ففي النخيل: إذا كانت النخلة جيدة، والتربة خصبة، والماء عذباً؛ فإنها تحمل الشيء الكثير، ولو تركت وكثرتها لأفسد بعضه بعضاً، وربما يستقيم العرق أو العرجون على البلحة الصغيرة فيفسد بعضه بعضاً، فيأتون ويخففون، إما بعض العروش، من الجنى، وإما بعض الحبات من العروش وهذا أحسن، فتكون الحبات متفرقة فتأخذ الثمرة مجالها وتكبر وتنضج وتصير ضعف ما لو تركت مع غيرها، فكانوا ينزلون هذا النوع المخفف إلى السوق ويباع كيلاً بالصاع علفاً للدواب، فلا مانع في مثل هذا أن يباع؛ لأنه ليس مقصوداً منه أن يطعم، وإنما المقصود منه أن يكون علفاً للدواب، فهو يباع على أنه علف.
إذاً: القاعدة العامة في بيع الثمار في البساتين على أصولها: لا تباع إلا إذا وصلت إلى حد النضج الذي يمكن فيه أن تطعم.