في هذا الحديث بدأ صلى الله عليه وسلم بتعليمه لازم الصلاة، وهو الطهارة لها فقال:(إذا قمت إلى الصلاة؛ فأسبغ الوضوء) ، فالرجل لم يتوضأ عندنا، ولم يره الرسول يتوضأ، ولكن من حكمة المفتي وفقهه وفطنته أن يراعي مصلحة المستفتي وكما تقدم حديث:(إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟) فماء البحر يصلح للوضوء ولا يصلح للشرب، فكان السؤال في خصوص الوضوء بماء البحر، فكان الجواب أبعد من ماء البحر:(هو الطهور ماؤه، الحل ميتته) ، ما الذي أتى بالميتة هنا والسؤال إنما هو عن طهارة ماء البحر؟ لماذا أفتاهم بحكم الماء وزادهم حكم ميتة البحر؟ وهل هذا غير مطابق للسؤال؟ بل هذا هو الجواب الحكيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك من حال السائل أنه إذا التبس عليه الوضوء من ماء البحر وهو يداوم ركوب البحر، فمن باب أولى أن يلتبس عليه حكم ميتة البحر، أو أنه في حاجة إلى معرفة حكم ميتة البحر؛ بحكم طول ركوبه البحر، فبيّن له حكم ما لم يسأل عنه؛ لأنه من لوازم المسئول عنه.
وهنا الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الرجل في المسجد لم يحسن الصلاة، فبدأه بتعليم لازم الصلاة، فإذا كان لا يحسن الصلاة فلعله أيضاً لا يحسن الوضوء، فقال له:(إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ) والإسباغ التعميم، مثل قولك: صبغت الثوب، أي: عممته بالصبغ، والدروع السابغات هي التي تغطي المقاتل وما يخشى من إصابته في المعركة، ولما قالت بعض زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع وخمار يا رسول الله؟! والخمار هو ما تخمر المرأة به رأسها ووجهها، والدرع هو ما تلبسه على جسمها كاملاً، فقال:(نعم، إذا كان الدرع سابغاً يغطي ظهور القدمين) ، إذاً: الدرع يكون سابغاً إذا كان يغطي ظهور القدمين، فإذا كان مرتفعاً عنها فليس بسابغ.
(فأسبغ الوضوء) أي: توضأ وضوءاً سابغاً، وفي غزوة تبوك توضئوا على عجل فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في أعقاب بعضهم لمعاً بيضاء، والعقب هو: مؤخر القدم عند التقاء الساق بالقدم عند العرقوب، وهذا التجويف قد لا يغسل عندما يمر عليه الماء، وقد يكون تجمع الهواء يمنع الماء من النزول إلى البشرة، فنادى صلى الله عليه وسلم وقال:(أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار) ، (أسبغوا الوضوء) ، أي: اجعلوا الوضوء سابغاً على أعضائه بحيث لا يكون فيه عضو منكشفاً، ولا يترك جزء من العضو المراد غسله لا يصل إليه الماء، ولهذا رأى المالكية وجوب الدلك؛ حتى يتأكد من أن الماء قد لمس جميع البشرة.
إذاً:(أسبغ الوضوء) بمعنى: أن تجعل غسل الأعضاء كاملاً، فإذا أسبغ وضوءه تمت الطهارة، ولم يذكر له عدد الغسلات، وجاء في تعاليمه صلى الله عليه وسلم: مرة ومرتين وثلاث، وأقل ما يجزئ في الوضوء مرة، وأكمل الغسلات ثلاث.