بقي عندنا حكم ما لو جئنا إلى مسجد ووجدنا فيه قبراً.
في هذه الحالة: إذا وجد القبر أولاً ثم بني عليه المسجد فلا تصح الصلاة فيه.
أما إذا كان المسجد أولاً، وجاء صاحب المسجد وأوصى أن يدفن فيه، أو دفن فيه أباه، أو دفن شخصاً عزيزاً عليه، فالمسجد سابق، والدفن فيه لاحق، ثم ينظر إلى هذا القبر الذي دخل على المسجد أين موقعه من المصلين؟ فإن كان في قبلة المصلين مباشرة فلا تصح الصلاة إليه، وإن كان في مؤخرة المسجد والسجود بعيد عنه فالصلاة صحيحة، وإن وجد مسجد آخر فهو أولى، وإن كان القبر عن يمين المصلين أو عن يسار المصلين وليس هناك استقبال للقبر فالصلاة صحيحة، فهذا ما يتعلق بهذا الحديث، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد.
فإذا كان ذلك في قبور الأنبياء والمرسلين إلى أممهم، فكيف بقبور غيرهم، فإن النهي عن اتخاذها مساجد من باب أولى، واستحقاقهم اللعن بذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم إلا تعليماً للأمة، فمعنى ذلك أن اللعن لليهود والنصارى بسبب فعلهم، والتعليم لنا، وإلا لما كانت هناك فائدة من هذا الإخبار.
وهنا مأخذ دقيق جداً، يبدو لي أنه أقوى دليل في هذا الموضوع، ولو لم يأت هذا الحديث، فإننا نقرأ في صلاتنا سورة الفاتحة، وبعد المقدمة والثناء على الله سبحانه والإقرار له بالربوبية والإقرار بعبوديتنا له واستعانتنا به نتوجه بطلب هو أعز ما يكون على الإنسان في حياته، فنقول:{اهْدِنَا}[الفاتحة:٦] والهداية ضد الضلال، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:٦] ثم جاء التفصيل نوعاً ما: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:٧] وقد جاء بيان الذين أنعم عليهم بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا}[النساء:٦٩] .
فقوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}[الفاتحة:٧] يعتبر كافياً في بيان الحق الذي يجب على المسلم لزومه، ولكن لشدة الحاجة إلى الإيضاح والتأكيد على البعد عن الباطل بين سبحانه الطريق المخالف للحق، فقال سبحانه:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:٧] ، فكأن الاستقامة أو الهداية إلى الاستقامة إنما هي طريق معتدل بين طرفين مختلفين هما: فريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين.
ومن هنا نعلم أن من وافق كلتا الطريقتين، أو أحد الفريقين فيما كان من خصوصياته فقد جانب الصراط المستقيم، ولحق بأولئك الذين وافقهم أو تابعهم، أي: في الجزئية التي تابعهم فيها، فكل من بنى على قبر مسجداً فهو بهذا النص الكريم لم يتبع الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، ولكن اتبع أحد الطريقين: إما المغضوب عليهم، وإما الضالين.
ويقول العلماء: كل من ترك العمل بما علم فهو مغضوب عليه، وكل من عمل بغير علم فهو ضال، ولهذا خصّ اليهود بالغضب، والغضب أشد من الضلال؛ لأن الضلال قد يكون لجهالة، وقد يكون لعذر، والضال قابل للتعليم، وقابل للرجوع، وقابل للهداية، أما المغضوب عليه فقد انتهى أمره بما هو فيه من الخطأ والإصرار على ما هو عليه.