[النهي عن الغلو]
لما كان الاهتمام بأحد الجانبين مضر بالجانب الثاني كان الغلو في الدين أضر من التقصير؛ ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن كل باب يدخل الإنسان في الغلو في الدين.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعرف إليه، وسلم عليه، وأسلم ورجع، وبعد سنة جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه رداً عادياً، فقال: ألم تعرفني يا رسول الله؟! قال: (لا، ما عرفتك.
قال: أنا الذي جئتك العام الماضي بكذا وكذا وكذا.
قال: ما الذي غيرك بعدي؟ كنت نضر الوجه، غض الجسم، ما الذي غيرك؟ قال: منذ فارقتك -يا رسول الله- ما أفطرت يوماً -أسرد الصوم- قال: لا، أتعبت نفسك، أين أنت من الأشهر الحرم؟ صم من الأشهر الحرم وأفطر) ، ما رضي له أن يظل صائماً، فإن ضعفت من الذي سيحرث الأرض؟ من سيصنع في المصنع؟ من الذي سيقاتل العدو؟ من الذي سيرعى الأولاد والزوجات والأبوين؟ لا، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال.
وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقوم الليل كله، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وقال: (بلغني عنك كذ وكذا، قال: نعم يا رسول الله! قال: إن لعينك عليك حقاً، ولجسمك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً - وفي بعض الروايات: ولزوجك-) .
وسلمان الفارسي لما جاء إلى أبي الدرداء وجد أم الدرداء مبتذلة، كأن ما عندها رجل، فقال: ما هذا يا أم الدرداء؟! ما عندك رجل ينظر إليك؟! ما عندك واجب تؤديه لزوجك؟! قالت: لا، أخوك أبو الدرداء لم يعد له حاجة في النساء، ولما رأى هذه الحال لم يكن أبو الدرداء موجوداً، فانتظر حتى جاء وبات عنده، فلما صلوا العشاء وتعشيا وأخذا في النوم قام أبو الدرداء يصلي في البيت، فأمسكه وقال: نم.
فلم يقدر على مخالفته فنام قليلاً وقام، لا يستطيع أن يصبر، فأمسكه وقال: نم.
حتى ما بقي إلا ثلث الليل الأخير، فقام يصلي فقال له: قم فصل إذا أردت.
وقام هو أيضاً فتوضأ وصلى ما تيسر.
وفي الغد أم الدرداء أتت بالفطور، فـ أبو الدرداء قال: كل أنت، أنا صائم.
فأخذ سلمان يده في الإدام وقال: كل، فأكل.
وقال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولعينك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً.
إلخ، فأعط كل ذي حق حقه.
فذهب أبو الدرداء في الظهر إلى رسول الله واشتكى وقال: يا رسول الله! سلمان صنع معي كذا وكذا، وعطل علي كذا وكذا وكذا.
فقال: (صدق سلمان) .