[حكم من لم يجد نعلين عند الإحرام]
ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إلا أحد لا يجد نعلين، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، فإذا أراد أن يحرم وأراد أن يلبس ثياب الإحرام، فإن وجد نعلين فليلبسهما، وإن لم يجد نعلين وعنده خفان فله أن يلبس الخفين ولكن بشرط أن يقطع ساق الخفين من تحت الكعبين.
أظنه ما يسمى الآن (بالكندرة النصف) وهناك (الكندرة) العسكرية التي يلبسها الجندي إلى نصف الساق، وهناك المدنية التي تكون تجدها صغيرة قصيرة من تحت الكعبين وتسمى: نصف رباط.
فهنا الخف لباس على قدر الرجل مثل الجورب، وساقه يمتد إلى أعلى فوق الكعبين، فإذا لم يجد النعلين لبس الخفين وقطعهما أسفل من الكعبين، وكيف يتحقق عدم وجود النعلين؟ قالوا: بأن تكون غير موجودة في السوق بالكلية، أو كانت موجودة ولكن البائع عرف أن هذا محرم فرفع عليه في قيمتها، كأن تكون بخمسة ريالات مثلاً، فرفع قيمتها إلى عشرة أو إلى عشرين ريالاً، فليس بلازم أن يشتريها وفيها هذا الفحش، أو كانت رخيصة كأن تكون بريالين لكن لا توجد عنده قيمتها، فتكون غير موجودة في حقه.
وهنا يقول العلماء: لو جاء شخص وقال له: يا أخي! أنا أعطيك نعلين تحرم فيهما هبة مني لك، فهل يجب عليه أن يأخذها أم لا؟ قالوا: لا يلزمه قبولها، مخافة المنة عليه، ولو جاء وقال: أعيرك إياها، فلا يوجد مانع من أن يأخذها؛ لأن العارية مردودة، يعير بعضهم بعضاً، ولو قال: أؤجرها لك، وكان عنده الأجرة، فعليه أن يستأجر.
إذاً: من لم يجد بمعنى تعذر وجوده، أو وجد مع مشقة عليه في زيادة السعر، أو وجد ولكن بمنة من الغير؛ لأنهم قالوا في الحج: إذا كان هناك إنسان غير مستطيع، وجاء آخر وقال: أنا أعطيك مالاً لتحج هبة مني لك، فليس بلازم أن يقبل؛ لأنه فيما بعد قد يمن عليه، ويقول: أنا حججت لك أنا أعطيتك لكن رب العزة سبحانه لا يمتن علينا، والله عز وجل إذا لم يعطه ولم يجعله مستطيعاً فقد أسقط عنه الواجب.
فمخافة المنة على الإنسان، ومحافظة على كرامة الإنسان عند الله، يسقط الفرض عنه، وكأنه يقول: يا عبدي! لا تتمنن على عبدي فلان، أنا أولى به منك، أنا أعطيه بغير منة، وأعطيه ما يستحق وأتفضل عليه بدون شيء.
وفي الصدقة قال الله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:٢٦٤] ، فلا فائدة من صدقة هذا الذي سوف يؤذي المسكين ويكسر خاطره.
إذاً: من لم يجد بالكلية، أو وجد ولكن بما يشق عليه فيه فكأنه معدوم، فإذا كان عنده خفان فليس هناك مانع من أن يلبسهما ولكن بشرط أن يقطعهما، ولماذا يقطعهما؟ حتى يصبحا في صورة النعلين، أي: كاشفين ظهر القدم ونازلين عن الكعبين.
ومسألة قطع الخفين وقع فيها نزاع بين العلماء رحمهم الله، فإن حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه: (وليقطعهما) ، قيل: في المدينة قبل أن يلبس المحرم، حين بين لهم ما يلبسون، وفي عرفات خطب صلى الله عليه وسلم وبين ما يجتنبه المحرم فقال: (من لم يجد النعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد الإزار فليلبس السراويل) ، ولم يذكر قطعاً للخفين، بل قال: (فليلبس الخفين) ، ولم يقل: وليقطعهما أسفل من الكعبين.
فأصبح عندنا حديثان في خصوص لبس الخفين: حديث في المدينة يأمر بالقطع، وحديث في عرفات يرخص في لبس الخفين من دون قطع.
فقالوا: إن حديث عرفات عام مطلق عن قيد القطع، وحديث المدينة خاص أو مقيد بشرط القطع، فيحمل العام في عرفات على الخاص في المدينة، فقوم قالوا: حديث المدينة يقضي على حديث عرفات، ويحمل المطلق في عرفات على المقيد في المدينة، فيكون حديث ابن عباس في عرفات: (فليلبس الخفين) ، بشرط القطع المذكور في حديث المدينة، ومن هنا وقع النزاع: هل حديث ابن عباس في عرفات مقيد بقيد القطع في المدينة فيجب القطع، أم أنه متأخر عنه وقد عرفنا التاريخ فيكون ناسخاً لحكم القطع؟ الناس في هذا على مذهبين: مذهب حمل العام على الخاص وأمر بالقطع مطلقاً.
ومذهب يقول بأن القطع قد نسخ بحديث ابن عباس المتأخر الذي سكت فيه عن القطع.
ويقال لأصحاب المذهب الأول: تقولون: إنه ترك ذكر القطع في عرفات؛ لأنه ذكره في المدينة، وهل كل من كان في عرفات وسمع حديث ابن عباس: (فليلبس الخفين) ، قد سمع حديث ابن عمر في المدينة؟ إذ أن حديث ابن عمر فيه القطع، فمن قال لكم: إن الذين في عرفات قد علموا وسمعوا بحديث ابن عمر في المدينة؟ إذاً هناك مجتمع يحتاج إلى بيان، وهنا مجتمع يحتاج إلى بيان، ولو كان بيان حديث ابن عمر كافياً لما كانت هناك حاجة إلى حديث ابن عباس في عرفات.
إذاً: الحاجة باقية لبيان ما لا يلبسه المحرم، أو حكم لبس الخف للمحرم، ولهذا أعاد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث مع ترك القطع.
ومن ناحية أخرى، فإن الخف مال محترم، والمال يجب أن يحترم وأن يصان، وما دام أنه لم يأتِ في حديث ابن عباس الأمر بالقطع، فإذا لبسناه ولم نقطع بناءً على حديث ابن عباس وحافظنا على المال من أن نتلفه، فلا يوجد هناك مانع من هذا.
وعلى كل حال: ما دامت المسألة عند العلماء دائرة بين الأمرين: وهو حمل المطلق على المقيد، أو القول بالنسخ، وقد عرفنا التاريخ، فأعتقد أن من أخذ بأحد الطريقين فحمل المطلق على المقيد أو أخذ بطريق النسخ، فكل منهما له وجه.