للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة ... )

قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:١٠] فإذا أتيتم بالواجب عليكم من طاعة الله، وأتيتم حظكم من الموعظة والتذكير وذكر الله، فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.

والانتشار: الاتجاه في جميع أرجاء الأرض، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:١٥] ، فذللها لهم.

فقوله تعالى: (فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) معناه أنه ليس الكسب بجهدك وقدرتك، بل هو فضل من الله عليك، ومع ابتغائك من فضل الله بفعل أسباب الرزق لا تنشغل عن ذكر الله، سواءٌ أكنت في مصنعك، أم في مزرعتك، أم في بيعك وشرائك، ففي مزرعتك تبذر الحبة وتدفنها في التراب وتسقيها الماء وتقول: يا رب: أنبتها واحفظها.

وتقول في متجرك: يا رب! ارزقني وبارك لي.

وتقول في مصنعك: يا رب أشهر صناعتي، ووفقني للابتعاد عن الغش، فمراقبتك لله في وزنك وفي كيلك وفي زرعك وفي صناعتك كل ذلك ذكر لله فضلاً عن ذكر اللسان.

وفي أوائل الستينات كانت توجد هذه الصورة في المدينة المنورة، فتمر بالسوق سواءٌ سوق العياشة أم سوق الحبابة أم سوق التمارة أم سوق البزازين أم سوق الصاغة، إذ لكل طائفة سوق في مكانه معروف، فتأتي بعد العصر وكل في محله الميزان أمامه والمصحف بين يديه يقرأ القرآن، فإذا جاء مشتر وضع علامة على موضع القراءة ثم أغلق المصحف ليبيع للمشتري، ثم إذا فرغ رجع إلى مصحفه، وهكذا كان القرآن بين أيدي الباعة خاصة في رمضان، وكنت تمر في أزقة المدينة في الليل فتسمع القراءة كدوي النحل، ولم يكن ذلك قاصراً على الرجال، بل كان النسوة والأطفال كذلك في بيوتهم.

فالبائع في دكانه يبتغي من فضل الله، ولم يغفل عن ذكر الله، حيث أمامه المصحف والكتاب والميزان معاً، فالميزان لعمله، والكتاب لقراءته، فكان تطبيقاً لقوله سبحانه: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:١٠] .