[ثلاثة أحداث في الحج للتشريع]
ومن ذلك: الحج، فقد حج النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:٩٧] ، وجاءت بعض التشريعات لبعض أركان الحج أو أعماله في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٩٨] ، وقوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:١٩٩] ، وقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:١٥٨] ، وقوله: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:٢٩] ، فهذه بعض تشريعات الحج، ولكن كون الحائض تطوف أو لا تطوف، وكون الإنسان يحج عن الغير أو لا يحج، لم يأت له في القرآن ذكر، وإنما جاءت وبينته السنة لشدة خطر موضوع الحيض والنفاس في الحج تأتي ثلاثة أحداث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحكم فيها: الحالة الأولى: في الميقات قبل الشروع في الإحرام.
الحالة الثانية: في أثناء الطريق وهم محرمون.
الحالة الثالثة: في يوم من أيام منى قبل العودة وقبل النفير.
أما الحالة الأولى: فهي حادثة أسماء زوجة الصديق، والصديق والرسول صلى الله عليه وسلم في ركب واحد، وعلى مرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، نفست أسماء عندما باتوا في بئر علي، فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (مرها فلتغتسل ولتنوي) ، هي نفساء الآن، ولم تطهر من النفاس! ولكن هذا الغسل ليس لطهر النفاس ولكن للإحرام، فهذا يدل على أن النفاس لا يمنع المرأة أن تحرم.
الحالة الثانية: بعد أن وصلوا إلى سرف: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة - وكانت أحب النساء إليه- فإذا بها تبكي، فقال: لعلك نفست؟ فقالت: نعم، فقال: لا عليك، أمر كتبه الله على بنات حواء، قولي: حجة في عمرة) .
الحالة الثالثة: عندما نزل من عرفات إلى منى ورمى الجمار، وعندما رجع من مكة إلى منى (سأل عن صفية، فقالوا: إنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ - أي: عن العودة وطواف الإفاضة حتى تطهر، وبعدها تطوف طواف الإفاضة- فقالوا: لا.
لقد طافت من قبل- استأذنت فنزلت من منى، ورمت جمرة العقبة، ونزلت إلى مكة وطافت ورجعت إلى منى- فقال: إذن نرحل ... ) .
فتأتي هذه الأحداث الثلاثة فيما يتعلق بأمر النسوة في بيت رسول الله، ليبين صلى الله عليه وسلم للأمة في ذلك إذا وقع لهم مثله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (إني مثلكم أنسى كما تنسون) لا مانع من ذلك، ولكنه لم ينس شيئاً من التبليغ، وقد ينسى شيئاً من العبادة ولكنه لا يترك عليه، وهذا بإجماع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على النسيان في العبادة، بل لا يقر صلى الله عليه وسلم على الخطأ في العبادة، ولو لم يكن نسياناً، كما في قصة خلعه صلى الله عليه وسلم لنعليه وهو ساجد في الصلاة، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم قال: (أنا خلعت نعلي، فما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا - وهذا هو الواجب، فربما جاء تحريمه في هذه اللحظة- قال: أما أنا فأتاني جبريل فأخبرني أن فيهما أذى، فخلعتهما) فلم يقر على الأذى في نعليه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما يتعلق بالبلاغ فهو معصوم صلى الله عليه وسلم من النسيان فيه، بل يقول القاضي عياض: أيهما أشد؛ النسيان الذي يتذكر به حالاً أو السحر الذي وقع عليه؟ فقد وقع عليه السحر بإجماع المسلمين، سحره لبيد بن الأعصم، وقضيته معروفة في تفسير سورة الفلق، فوقع عليه صلى الله عليه وسلم ما يقع على البشر بسنة البشر، ولكن في حالة السحر بينت عائشة فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله) ، ولم تقل: تكلم بكذا, ولا ألغى كذا، ولا نسخ كذا، أبداً، وإنما هي أمور عملية فعلية في شخصه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الرسالة، ولا يتعارض مع العصمة، ولا يخدش في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
ونأتي إلى بلاغ مالك: (أنسّى) .
أقول: والله! إن تلك الأحداث لتشهد لرواية مالك: (أنسّى) ؛ لأن ذلك من تمام التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وبيان التشريع، والله تعالى أعلم.