قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: (إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم) أخرجه الأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة] .
من فقه المؤلف رحمه الله تعالى أنه ساق حديث اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، ثم ما يتعلق بسؤر الكلب، ثم هنا ما يتعلق بسؤر الهرة، وهذا يناسب باب إزالة النجاسات؛ ولكنه ساقه هنا في باب المياه تتمةً لمسألة قليل الماء إذا لاقته نجاسة ولم تغيره، فالإناء ماؤه قليل، وولوغ الكلب فيه -على نجاسة سؤره- لم يغير من أوصافه شيئاً، وقد أمرنا بإراقة الماء وغسل الإناء، فعلى القول بنجاسته يكون الماء القليل قد تنجس بالنجاسة وإن لم تغير أحد أوصافه.
ثم لملابسة الهرة للناس في بيوتهم أتبع خبر الكلب بخبر الهرة؛ لجامع أن الكل يخالط الإنسان، ويستدعي الواقع بيان الحكمين، فكما بين سؤر الكلب يريد أن يبين سؤر الهرة، فذكر حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه، وسبب هذا الحديث: أن زوجة ولده وضعت له ماءً في إناء ليتوضأ، فجاءت هرة وأرادت أن تشرب من ذلك الماء، فأصغى أبو قتادة الإناء للهرة، أي: أماله حتى تستطيع أن تشرب منه، فلما رأت تلك المرأة فعل أبي قتادة تعجبت! وكأنها تستبعد أن يتساهل حتى يسمح للهرة أن تشرب من ماء يتوضأ منه، فلما رأى ذلك قال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قالت: نعم، أعجب من فعلك! وكأنه رأى في قسمات وجهها علامات التعجب، وهذا من الفراسة أو من الذكاء حينما تنظر لإنسان وتعرف أنه فرحان، أو غضبان، أو يتعجب، أو يستنكر، فقسمات الوجه تدل على نفسية الإنسان، فقال لها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الهرة: (إنها ليست بنجس) ، يعني: وما دام أنها ليست بنجس وهي تريد أن تشرب فاسقها، (إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات) .
يقول العلماء في فقه هذا الحديث: سؤر الهرة ليس بنجس، وبعضهم يقول: نجَس ونجِس هما بمعنى واحد، وبعضهم يقول: نجَس -بالفتح- في النجس المعنوي، ونجِس -بكسر الجيم- في نجس العين كالعذرة ونحوها، والذي يهمنا أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه أخبر زوجة ولده أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن الهرة:(إنها ليست بنجَس) .
وهل هي ليست بنجَس بسبب أنها من الطوافين، أم أنها في الأصل نجسة ولكن لما كانت من الطوافين خفف عنا وعفي عن نجاستها لمخالطتها إيانا؟ هذه المسألة يبحثها العلماء.
والطوّاف: هو الذي يطوف في الحي، وقيل: الذي يطوف على صاحب البيت بالخدمة، كما قال تعالى:{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَاب وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}[الواقعة:١٧-١٨] ، وقيل: الطوّاف: الذي يقوم بخدمة من في البيت، وشبهت الهرة بالخدم الذين يطوفون على أهل البيت لأجل المخالطة، فلا يمكن أن تحترس من الهرة في البيت.
قال بعض العلماء: إنها ليست بنجس في ذاتها، وزيادةً على ذلك فهي من الطوافين والطوافات.
وقال بعضهم: أصلها نجسة، ولكن خفف عنا بسبب أنها طوافة علينا، ولا يمكن الاحتراز منها.
ويفرعون على ذلك: لو أننا وجدنا الهرة أكلت فأراً، وبقايا لحم الفأر ودمه على فمها، وشربت من الإناء، فهل نقول: إنها ليست بنجس لأنها من الطوافين، أم نقول: إننا شاهدنا نجاسة خارجة من فم الهرة وقعت في الإناء؟ نقول: هي ليست بنجس، ولكن جاءت بنجاسة، والعبرة بما جاءت به.