[شرح حديث: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)]
قال رحمه الله: وعن أنس رضي الله عنه: (أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصنعوا كل شيء إلا النكاح) رواه مسلم] .
تأملوا -يا إخوان- هذا الحديث، فهو يعطينا تاريخ المرأة عند اليهود، وهي أمة ذات كتاب، قدم المسلمون المدينة فوجدوا اليهود إذا حاضت المرأة فيهم، لا يؤاكلونها، ولا يشاربونها، ولا يساكنونها في مسكن واحد، بل يعزلونها ويقولون: إنها نجسة، ولما رأى المسلمون اليهود يفعلون ذلك -وهم أهل كتاب- وقعت عندهم شبهة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فعل اليهود، فقال لهم: (اصنعوا كل شيء) أي: من المؤاكلة والمشاربة والمضاجعة والمساكنة، وكل شيء يفعله الزوج مع زوجه افعلوه (إلا النكاح) أي: الجماع، أما: النكاح بمعنى العقد فليس هناك مانع، فيجوز أن يعقد عليها وهي حائض، لكن إلا الجماع، كما قال تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢] ، فلما بلغ هذا اليهود قالوا: والله! إن هذا الرجل ما ترك شيئاً إلا وخالفنا فيه، فكان عليه الصلاة والسلام يحرص على مخالفتهم.
فنقول للعلمانيين ولأصحاب الحداثة وللذين لا يلتزمون بتعاليم الإسلام وللذين ينادون بتحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقها: انظروا إلى تاريخ المرأة عند اليهود، وهم أهل كتاب، فيعتبرونها -لأمر لا قدرة لها فيه، ولا مدخل لها في حدوثه- نجسة، وكان ينص القانون الفرنسي في عهد نابليون أو قبله: أن المرأة مخلوق نجس، ولا يحق لها أن تمس الكتاب المقدس، بينما صحف القرآن جمعها زيد بن ثابت زمن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم توفي فانتقلت إلى عمر رضي الله تعالى عنه، فلما توفي كانت تلك الصحف الأساسية عند حفصة بنت عمر زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما أراد عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب المصحف الأم؛ استأذنها واستعارها منها على أن يردها إليها بعد نهاية المهمة، فأهل القانون الوضعي والأوروبيون والذين يدعون الحضارة يقولون: المرأة مخلوق نجس بصفة عامة، واليهود لا يأكلون ولا يشربون معها، ولا يستخدمون الإناء الذي تأكل وتشرب منه، ولا الفراش الذي تنام عليه، فيعزلونها جانباً عن سكنهم وعن طعامهم وشرابهم؛ بحجة أنها نجسة لحيضتها.
إذاً: من الذي يستحق أن ينكر عليه فيما يتعلق بالمرأة: اليهود ومن سار على شاكلتهم ومنوالهم أم المسلمون الذين يكرمون المرأة ويقول رسولهم صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا كل شيء إلا الجماع) ؟ جاء في سنن البيهقي رحمه الله أن رجلاً قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أخبريني يا أماه! أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر أول الليل أم آخره؟ فقالت: من كل الليل أوتر: من أوله وأوسطه وآخره، قال: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يغتسل من الجنابة قبل أن ينام أم ينام قبل أن يغتسل؟ قالت: أحياناً يغتسل ثم ينام، وأحياناً ينام ثم يغتسل، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، أخبريني أكان يأكل معك وأنت حائض؟ قالت: كنت آكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ اللحم أنهشه بفمي ثم أعطيه إياه فيأكل منه من بعدي، وكنت أشرب من القدح فأعطيه إياه فيضع فاه موضع فمي ويشرب، قال: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.
فالمرأة كانت مهانة عند اليونان والرومان، وكانوا يعاملون المرأة معاملة وحشية، وكانت المرأة في بعض الشعوب تدفن مع زوجها وهي حية! ويقولون: إنها بعد موت زوجها لا قيمة لها، وكانت في الجاهلية تورث وتباع، وكانت توأد وهي حية، فجاء الإسلام فكرم المرأة حتى وهي حائض، وجعل للحائض جميع حقوق المرأة ما عدا موضع الأذى، وذلك لمصلحتها ومصلحة زوجها، قال الله: {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢] ، فالجماع عند الحيض أذى على الرجل؛ لوجود التلوث بالدم، وأذى على المرأة؛ لأن أعصابها لا تحتمل الجماع.
هذا الحديث يعنونون عليه بباب: ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض؟ وسيأتي زيادة إيضاح لذلك في حديث أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كانت إحدانا إذا حاضت وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منها شيئاً أمرها أن تتزر ويباشرها) .
إذاً: كان اليهود يعاملون الحائض تلك المعاملة السيئة، فجاء الإسلام ونقض عليهم ذلك، ونبذ أحوالهم، وبين للمسلمين أن الحائض امرأة عادية، وهذا ليس بيدها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنه أمر كتبه الله على بنات آدم) .
إذاً: يجوز للرجل من امرأته الحائض كل شيء -كما صرح الشوكاني - من التقبيل واللمس والتمتع وكل شيء إلا الجماع، والعلماء يتفقون أنما فوق سرة المرأة لزوجها أن يتمتع به، وما تحت الركبة كذلك، واختلفوا فيما بين السرة والركبة، هل له أن يتمتع بذلك؟ قالوا: نعم له ذلك، إذا طرح على فرج المرأة ثوباً يمنعه منها، لكن الناس يختلفون في ذلك الأمر، فإذا كان الشخص يعلم من نفسه أنه يملك نفسه عن الجماع في الفرج فله ذلك، وإذا كان يعلم من نفسه أنه قد ينزلق فليبتعد.
وعلى كلٍ، فكل شيء من الحائض جائز من المؤاكلة والمشاربة والمماتعة والمساكنة إلا الجماع، وهو نص القرآن الكريم: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:٢٢٢] .
ويبحث علماء التفسير في كلمة: (المحيض) ، فمحيض على وزن: مفْعِل، ومفعل يطلق للزمان والمكان، مثل: مجلس موعد، تقول: هذا مجلس فلان، فهو اسم مكان، وتقول: هذا موعد مجيء فلان أو موعد جلوسه.
فهذا اسم زمان، واسم الزمان واسم المكان والمصدر الميمي يتفقون أن صيغته على وزن: مفعل، فهل المحيض اسم مكان الحيض أو اسم زمان مدة الحيض أو مصدر ميمي؟ ومهما يكن من شيء فإن الفقهاء متفقون على تحريم وطء الحائض كما جاء في الحديث: (إلا النكاح) ، والنكاح هنا بمعنى: الجماع، والنكاح قد يطلق على العقد، ويطلق على الدخول بالمرأة، فأما العقد فلا مانع أن يعقد عليها وهي حائض، ولكن لا يجامعها وهي حائض.