[قوله: (وكل بدعة ضلالة)]
قوله: (وكل بدعة ضلالة) : هناك جملة تأتي في بعض الروايات، وهي: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ليتم التركيب المنطقي كما يقولون، فتكون كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فينتج أن كل محدثة في النار، فهذا التركيب اختصره الراوي في هذه العبارة، وأسقط الجملة الوسطى: (كل محدثة بدعة) ، وهذا يتوافق مع المعنى اللغوي؛ لأن الشيء الذي أحدث لم يكن موجوداً، أي: ابتدع.
والبدعة مأخوذةٌ من الإبداع، والإبداع: إيجاد الشيء على غير هيئة سابقة، كما في قوله سبحانه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:١١٧] ، أي: خالق السماوات والأرض على غير مثال سابق حاكاه، ومنه قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٩] أي: ما أنا أول من جاء بالرسالة، بل سبقني بالرسالات أنبياءٌ عديدون، وأنا جئت على أثرهم.
ويستوقفنا هنا مجيء الحديث الآخر: (من سنة سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ، فقالوا: كيف يسن إنسان سنة حسنة؛ إذ يمكن أن يسن سنة سيئة، ولكن كيف يسن سنة حسنة؟ والجواب: إن معنى (سن سنة حسنة) ، أحيا سنة تركها الناس، أو أتى بعملٍ له أصلٌ في الإسلام.
وأصل هذا الحديث أنه لما ندب النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين ليتصدقوا على الذين جاءوا مجتابي النمار وعليهم أثر الفاقة، وكان يوم الجمعة، فندب الناس ليتصدقوا فجاء بعضهم بالسويق وجاء بعضهم بثوب، وجاء بعضهم بالدرهم، إلى أن جاء رجلٌ بكيس يحمله في يده وألقاه بين يدي رسول الله وقد كادت يده تعجز عن حمله، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وتتابع الناس بالمبالغ الكبيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة) ، أي: صاحب هذا الكيس سن سنة حسنة للمتصدقين، ونقلهم عن السويق والثياب وغير ذلك إلى المبالغ الكبيرة، فهذا له أصل وهو الندب إلى الصدقة، والناس مشوا على القليل فسن لهم سنة حسنة، فكان ممن سن سنة حسنة.
وقد جاء في الحديث أنه أحيلت الصلاة ثلاث مرات، ومما أحيلت فيه أنه كان المسبوق يأتي ويسأل الرجل في الصف: كم صليتم؟ فيشير إليه أنهم قد صلوا واحدة أو اثنتين، فيأتي بالركعتين أو بالركعة التي فاتته، ويلحق الإمام في الصلاة، ويسلم مع الإمام؛ لأنه أتم صلاته، فما كان فاته فقد أتى به ثم أدرك الإمام ومشى معه، فقال معاذ: لن أجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على حالة إلا وتابعته عليها، فجاء وقد صلوا بعض الصلاة، فدخل حالاً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف معاذ ما الذي بقي عليه من صلاته فقام وأتمه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن معاذاً قد سن لكم في الصلاة سنة فاتبعوها) ، فهذه سنة أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهنا يأتينا خبر عمر رضي الله عنه لما رأى الناس يصلون التراويح أوزاعاً، فكل قارئ خلفه عدد من الناس، وكل قوم يتبعون أحسن الناس صوتاً وقراءة، فقال عمر رضي الله عنه: (أرى لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً) ، فجمعهم على إمام واحد، ثم ذهب إلى المسجد بعد ذلك فرآهم مجتمعين على إمام واحد فقال: (نعمت البدعة) ، فكيف يقول عمر: نعمت -وهو وصف مدح- لبدعة وفي الحديث: (وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؟ فهل المعنى: نعمت الضلالة؟ حاشا وكلا.
ونقول: إن عمر رضي الله عنه سن سنة لها أصلٌ، وذلك أنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ذات ليلة من العشر الأواخر في رمضان، وصلى في المسجد بعد أن انصرف الناس من صلاة العشاء، فكان يوجد بعض الناس فصلوا خلفه ثم انصرفوا، فسمع الناس بصلاة بعضهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا في الليلة الثانية عدداً كثيراً، فلما خرج صلى الله عليه وسلم صلى كما صلى في الليلة الأولى، فصلى وراءه العدد الكثير ثم انصرف، ثم في الليلة الثالثة تسامع أهل المدينة، فلما صلوا العشاء مكثوا في مكانهم، فقال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما بال الناس؟ ألم يصلوا العشاء؟ قالت: بلى.
قال: وما شأنهم؟ قالت: ينتظرون خروجك لتصلي فيصلون بصلاتك كما صلى الناس من قبل، قال: قومي واطوي عنا حصيرك) وكانت تفرش له حصيراً في الروضة، فما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك حتى الصبح.
فهنا وقعت صلاة التراويح جماعة بإمام واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما منعه من الاستمرار في ذلك إلا ما صرح به صلوات الله وسلامه عليه بقوله: (ما خفي عليَّ صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً -لأنهم كانوا يتنحنحون، ويأخذون الحصباء ويرمون بها باب الحجرة، كأنهم يقولون: نحن هنا فاخرج إلينا- وما منعني إلا أني خشيت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم) ، فترك الخروج من أجل العلة، وهي الشفقة عليهم من أن تفرض عليهم فلا يقدرون عليها.
فلما انتهى عهد الفرض ونزول الوحي والتشريع من جديد وأمن ذلك، جاء عمر، فما زاد على أن جمعهم على إمام واحد كما صلوا خلف إمامٍ واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فهي سنة، ولكن عمر سماها بدعة من حيث اللغة، أي أنه أول من جمع الناس على إمامٍ واحد، فكانت صورة مبتكرة، وإن شئت قل: مبتدعة، أي: لا نظير لها من قبل، فلم ينصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إماماً للناس فيها، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وكذلك عمر في أول خلافته، ولكنها في تلك اللحظات وجدت، لعدم وجود نظيرها من قبل.
ومن هنا قيل: إن عمر حينما قال: (نعمت البدعة) أراد المعنى اللغوي، أي: العمل الجديد الذي وجد، ولا يريد معنى البدعة التي استحدثت في الدين.
إذاً: كل محدثة أو كل أمرٍ محدثٍ بدعة، وتنصب على البدعة التي تقابل هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهناك مبحث طويل تكلم عنه صاحب الاعتصام وغيره في درجات البدع، فهناك بدع مكفرة وهي التي تتعلق بالعقائد، وهناك بدع مفسقة وهي التي تتعلق بالعبادات، وهناك بدع مخلة بالمروءة وهي ما كانت مغايرة للمندوب؛ فهي متفاوتة عند الفقهاء بحسب موضوعها الذي يتعلق بها، فمن أراد التوسع في ذلك فليرجع إليه.