وهذه من أحسن مكارم الأخلاق بين المتبايعين، وتدل على كرم النفس والسماحة، والتماس العذر وقبوله من الأخوة، وهي معروفة قبل الإسلام وفي الأمم الماضية، وقد جاء عن نبي الله داود عليه السلام حينما أوحى الله إليه: أن ابنِ لي بيتاً في بيت المقدس، وأراه المكان الذي يبني فيه البيت -أو المسجد- وكان الموضع ملكاً لرجل من بني إسرائيل فاستدعاه، وقال له: ثامني على هذا الحوش؛ لأبني فيه بيتاً للرب سبحانه.
قال: اشتر.
فقال: بمائة ألف.
قال: بعتك، ثم قال: يا نبي الله! أستنصحك: الأرض أحسن أم الثمن؟ قال: استنصحتني؛ الأرض أحسن.
قال: أقلني.
قال: أقلتك.
قال: اشتر.
قال: بمائتي ألف.
قال: بعتك، ثم قال: أستنصحك: الأرض أم الثمن.
قال: الأرض.
قال: أقلني.
خمس مرات.
يهمنا في هذا الخبر: أنه طلب من نبي الله أن يقيله فأقاله، وفي الخبر: النصح لله ولعامة المسلمين، وهذا نبي معصوم من الغش، فنصح للرجل بالحق، ولو كان ذلك على نفسه هو؛ حتى ارتفع السعر خمسة أضعاف، وذلك نتيجة النصح والصدق، أخيراً لما تعب داود عليه السلام من الرجل قال له: سم ما شئت أعطه لك.
قال: أو تفعل؟ قال: نعم، قال: تملأه علي إبلاً وبقراً وغنماً.
قال: قبلت.
ودعا بني إسرائيل ليجمعوا في الحوش من تلك الأنعام حتى ملئوه.
يهمنا في هذا وجود عنصر الإقالة، وصورة الإقالة كما أشارت رواية الحديث الأخرى:(من أقال نادماً) : رجل اشترى السلعة برغبة منه، ثم بعد ذلك بدا له أمر وندم على شرائها، قد يكون كطلبة العلم، يرى الكتاب في المكتبة فيعجبه، ثم يرجع إلى مكتبه ليضعه ضمن الكتب فيجده موجوداً عنده، وكثيراً ما يقع هذا، فيرجع إلى صاحب المكتبة: أنا أخذت الكتاب فوجدته موجوداً عندي في المكتبة، وندمت على شرائه، تقيلني؟ فهنا إن كان صاحب المكتبة كريم النفس، يحب لأخيه ما يحب لنفسه، يقيل عثرات الإخوان سيقول: لا عليك يا أخي، بكم أخذته مني؟ تفضل هذا ما دفعته، هذه هي الإقالة، وهي لا تتقيد بزمن.