[شرح حديث: (كان رسول الله يوتر بسبح اسم ربك الأعلى)]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فيقول المؤلف رحمه الله: [وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، و (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
] .
أرجو من الإخوة جميعاً أن يرجعوا إلى تفسير سورة الأعلى في كتاب أو كتابين، بل كل ما تناولته أيديهم من كتب التفسير، ويقرءوا تفسير هذه السورة الكريمة، وأول ما أنصح به التفسير الكبير للفخر الرازي؛ لأنه في الواقع له توجيهات كونية عجيبة جداً، فإذا لم تتيسر ليلة من الليالي إيراد ما فيها من نقاط وتوجيهات، فلتكن هناك القراءة الفردية والرجوع إليها، وهي -كما يقال- جولة في سورة من كتاب الله، وسيجد القارئ الشيء العظيم جداً، وقد لا يخطر بباله ما يراه حول هذه السورة الكريمة.
يقول أبي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بهذه السور الثلاث، وقد تقدم عندنا: من شاء أن يوتر بواحدة بثلاث بخمس بسبع بتسع، وهنا ذكر أنه يوتر بثلاث، فإذا كان أوتر بخمس أو بسبع أو بتسع ماذا يقرأ فيها؟ يقرأ ما تيسر له، وليس هناك تعيين بسورة معينة إلا في الثلاث ركعات فقط؛ لأن أكثر وتر الناس بالثلاث، يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وسواء جمع الثلاث أو فرق؛ ولهذا أبي رضي الله عنه إنما بيّن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الثلاث الأواخر من الوتر، سواء اقتصر عليها الإنسان، أو أنه أوتر بأكثر منها، فيقرأ في كل ركعة ما تيسر له، ولكن يقرأ في الركعات الثلاث الأخيرة بهذه السور الثلاث الكريمة.
قال: [وزاد: (ولا يسلم إلا في آخرهن) ] .
هذا مما أوقف البعض عند صورة الثلاث ركعات: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، وأنتم إذا فرقتم الركعة عن الركعتين سلمتم قبل الثالثة، وهنا: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، معناه: أنه صلى الثلاث مجموعة، وهذا الذي يفعله الأحناف، فماذا توردون عليهم؟ قال الجمهور: نعم، نحن نقول: إنه لا يسلم إلا في آخرهن، أي: بسلام واحد، ولكن الذي نورده على الأحناف هو أنهم يتشهدون في الثانية ولا يسلمون، فلو أنهم تركوا التشهد في الثانية، ولم يسلموا إلا في الأخيرة فلا مانع، وهذا يدل عليه ظاهر هذا الحديث فإنه يتفق مع هذه الصورة؛ لأن الحديث مفهومه: أنه لم يكن يتشهد قبل الأخيرة، إذاً: الصورة التي ينطبق عليها هذا الحديث هو: أنك تسلم في آخرهن دون أن تجلس للتشهد في الثانية، فلا تتعارض الصورة مع هذا الحديث، ويسلم من معارضته النهي عن تشبيه الوتر بالمغرب.
إذاً: قوله: (ولا يسلم إلا في آخرهن) أي: يصلي ثلاث ركعات وتراً بتشهد واحد وسلام واحد، والأحناف حملوا قوله: (لا يسلم إلا في آخرهن) ، أنها موصولة، وقالوا: إن صفة صلاة ثلاث ركعات يصلي مثنى مثنى، وإذا صلى ركعتين تشهد ولم يسلم إلا في آخرهن.
وبهذه المناسبة لا ينبغي لإنسان أن يجعل من صورة الخلاف بين الأحناف والجمهور موقع إشكال، أو مورد نزاع وخلاف؛ لأن أصل الوتر من حيث هو سنة ومندوب، فإذا ما اختلف في صورته فلا ينبغي التعارض فيه، ولكن ينبغي على الإنسان في شخصه وذاته أن يتطلب ما يترجح عنده؛ لأنه يفعل مندوباً، وفاعل المندوب يطلب الخير، وطالب الخير يطلب الأفضل، فعليه أن يبحث، وما ترجح عنده يعمل به لشخصه، لكن أن ينكر على غيره ما ترجح عنده فلا ينبغي ذلك، ولا سيما إذا وجدنا أن بعض النصوص فيها ما يوهم إلى ما ذهب إليه الغير؛ لأنهم يقولون: هؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، وهؤلاء القوم قد مضوا إلى ما اقتنعوا به من الأدلة، إذاً: كل من الفريقين أخذ بما اقتنع به من الأدلة، فإذا كنت تعترض على ما اقتنع به الفريق الثاني فمن حق الفريق الثاني أن يعترض عليك فيما اقتنعت أنت به، وما دامت المسألة قابلة للاجتهاد والنصوص متقاربة فلا مانع أن يذهب كل بما اقتنع به، ولا ينبغي اعتراض أحد الطرفين على الآخر، والله تعالى أعلم.
مع العلم بأن الأحناف ينصون في كتبهم على أن الحنفي لو أوتر خلف غير الحنفي فله أن يوافقه على وتره، وقدمنا بالأمس قول الإمام أحمد رحمه الله فيما يتعلق بالقنوت في الوتر، أو فيما يتعلق بالقنوت بالصبح قال: لا أفعله، وإن صليت خلف إمام يقنت قنت متابعة للإمام، إذاً: الإمام الجليل أحمد بن حنبل رحمه الله وغيره إذا صلى خلف من يرى مخالفته في شكل من الأشكال لا يخالفه، ويتابعه وفاقاً للمسألة، ولما سئل أحمد بن حنبل: أتصلي خلف من لا يرى الوضوء من لحم الجزور؟ أحمد عنده أن من أكل لحم الجزور انتقض وضوءه، فقيل له: لو رأيت إنساناً أكل لحم الجزور ولم يتوضأ أتصلي خلفه؟ قال: وكيف لا أصلي خلف مالك وخلف فلان وفلان؟ أي: وهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، فهو يصلي خلف من يخالفه فيما يتعلق بالوضوء وهو أمر أساسي في صحة الصلاة؛ لأن المسألة اجتهادية، وهذا له رأيه، وهذا له رأيه، فما دام أنه ائتم به يوافقه، وهذا كله يعطينا صورة في تجنب السلف الخلاف والمنازعات.
والله تعالى أعلم.