[الاقتداء بالفعل أقوى من الاقتداء بالقول عند ابن عبد البر]
يقول ابن عبد البر: إن الاقتداء بالفعل قد يكون أكثر أثراً من الاقتداء بالقول؛ لأن الفعل ليس فيه احتمال.
ويستشهدون لذلك بقضية الحديبية، فإنه لما تم الصلح بين المسلمين والمشركين على أن يتحلل المسلمون في مكانهم، ويرجعون ولا يدخلون مكة، وفي العام القادم يأتون ولهم البقاء في مكة ثلاثة أيام يؤدون عمرتهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد اصطلحنا على أن نتحلل فتحللوا، فلم يبادر أحد، وتأخروا لا بقصد عدم الطاعة ولكن لأنهم كانوا يؤملون أن يتم لهم الوصول إلى مكة وقد وصلوا إلى مشارف الحرم.
بعض العلماء يقول: كانت خيامهم في الحل، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد الصلاة دخل إلى حدود الحرم وصلى في حدود الحرم؛ لأن الحديبية في حدود الحرم من جهة المشرق.
إذاً: أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبادروا إلى الامتثال، ولما دخل على أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهو مغضب، قالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: وما لي لا أغضب وأنا آمر الأمر فلا يؤتمر به، قالت: وما ذاك؟ قال: قد انتهينا مع أهل مكة على الصلح على كذا وكذا، وأمرتهم بالتحلل فلم يمتثلوا، قالت: اعذرهم، أتريد أن يفعلوا ما تحب؟ قال: بلى، قالت: خذ المدية أو السكين واخرج ولا تكلمن أحداً أبداً، واعمد إلى هديك فانحره، وادع الحلاق ليحلق لك، ثم الزم خيمتك.
وهذه سياسية لطيفة جداً، سياسة الرفق في الدعوة، بخلاف ما كان من عمر، فهو يقول: علام نعطي الدنية في ديننا، ألسنا على الحق وهم على الباطل، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فكان يريد أن يقاتل، والذي يذهب إلى الجنة يذهب، والذي يذهب النار يذهب، ولكن أم سلمة رضي الله عنها جاءت بحل سلمي، وهو صلى الله عليه وسلم ولم يقل لها: أنت لا تعلمين شيئاً، أو ليس لك شغل في هذا، بل وجد صلى الله عليه وسلم أن الرأي مقبول، وهذا هو الواجب على طالب العلم، فإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من السماء يقبل بالرأي الصائب فكيف بنا؟ فأخذ السكين وخرج إلى هديه فنحره، ودعا الحلاق وقال: احلق، فلما رأى الصحابة ذلك لم يبق لهم مطمع في الدخول إلى مكة، وما كان منهم إلا أن بادروا حتى كادوا يهلكون من تزاحمهم على النحر والحلق.
إذاً: اتباع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم للفعل أسرع منهم اتباعاً للقول.