فقوله:(نفس المؤمن) يحتار العلماء في مدلول النفس، فمثلاً:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:٧]{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}[المائدة:٤٥]{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}[آل عمران:١٨٥] أهو البدن أم البدن مع الروح؟ الله تعالى أعلم، وقوله:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ}[الفجر:٢٧-٢٨] هل ترجع الروح والبدن أم الروح فقط؟ وكذلك السؤال، العذاب، النعيم هل هي للروح فقط، أم للروح والبدن؟ تجدون الكلام في هذا كثير، ولكن الذي يعنينا هنا أن المؤمن مرهون بدينه، والتعبير بالنفس ليشمل الروح، وأما البدن فقد يفنى، ولكن الله سبحانه وتعالى يجمعه:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ}[ق:٤] .
والرجل الذي أوصى أهله إن هو مات أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يأتون به في يوم شديد الريح، وعلى حافة البحر فيذرونه في الهواء، فجمع الله جسده، وقال له: ما حملك على هذا؟ قال: يا رب! خوفاً من عذابك، قال: قد غفرت لك، فمهما تنقص الأرض من أجسادهم يجمعها الله، نحن نعلم شخص المؤمن بروحه وببدنه، ولكن النقاش قائم فيما يتعلق بعذاب القبر وفي نعيمه إلى أن تقوم الساعة، أعني: هل هو للروح أم للبدن، ما عدا الشهداء والأنبياء؛ لأن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا تأكل الأرض أجسادهم، وحياتهم في قبورهم فوق مستوى الإدراك، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج أنه لقي جميع الأنبياء، بل أكثر من هذا: مر على موسى وهو قائمٌ يصلي في القبر الذي هو ذارع في ذراع! أي أنه وسع له في قبره! ثم إذا به يلقاه مع الرسل في بيت المقدس، ثم لقيه في السماء السادسة حينما عرج به، فهل عنده براق آخر وبأي صفة بروحه فقط وبدنه؟! كان قائماً يصلي ببدنه أمور لا دخل للعقول فيها، وهذا خصوصية المؤمن؛ أن لديه علوماً كثيرة جداً لا يمكن أن يصل إليها غيره؛ لأنها تأتيه عن الله بالوحي.
في هذا المسجد، وفي هذه الروضة أيام وقعة الحرة سنة ستين من الهجرة، خلت المدينة، وتعطل الأذان والصلاة ثلاثة أيام في هذا المسجد خوفاً من الجيش الغازي، إلا سعيد بن المسيب فإنه ما خرج ولا هرب، ولا ترك المسجد، وكان يأتي وحده، ويجلس بجوار الحجرة الشريفة في الروضة، فيسمع الأذان من الحجرة في الأوقات الخمسة، فمن الذي كان يؤذن هناك بلال هاجر إلى الشام، وأكرر وأقول: لا تحاول أن تسمح للعقل أن يتحكم في هذا ويكفيك أن تؤمن وتسلم لذلك، ولما انتهت الأزمة ورجع الناس، وأذن المؤذن في المسجد اختفى الصوت.
إذاً: هذه أمور لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فنفس المؤمن مرهونة، وهذا عام لا يخرج منه أحد، حتى المجاهد في سبيل الله يكون شهيداً لكنه محبوس.