حكمة التفريق بين لحوم الحمر الأهلية والوحشية حلاً وحرمة
بقي عندنا تحريم لحوم الحمر الأهلية مع بقاء حلية قسيمها، وهي الحمر الوحشية، فإن كان التحريم للجنس فالجنس في البر حلال، فما هي العلة في تحريم الحمر الأهلية مع إباحة الحمر الوحشية؟ إننا لو فتشنا من قريب فلن نجد شيئاً، والعلة هنا مستنبطة وليست منصوصة، ولكن قبل البحث عن علة التشريع يجب علينا نحن المسلمين إذا سمعنا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً التصديق والعمل امتثالاً لأمر الله، وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى حكيم عليم لا يشرع إلا لحكمة، ثم إن مقتضى قول المسلم: (لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يلزمه إلزاماً أن يقبل ما جاء عن الله، فلا يعبد إلا الله، بدلالة (لا إله إلا الله) ؛ لأنه إذا عبد غير الله نقض قوله: (لا إله إلا الله) ، وكذلك إذا لم يقبل تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رفض شيئاً منها يكون نقض قوله: (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم.
وكنا نبسط المسألة ونقول: دلالة الالتزام في هاتين الشهادتين مثالها كما يوجد عند الناس الآن في السلك الدبلوماسي، حينما تقوم دولة، وتبرم معاهدة، أو صداقة، مع دولة أخرى تعترف بها، ثم تبعث إحدى الدولتين، سفيراً لها عند الدولة الأخرى، وهذا السفير يقدم أوراق اعتماده، ويعلن عنه سفيراً، في موكب رسمي، أو بمراسيم رسمية، فكل ما جاء به هذا السفير من دولته، إنما هو باسم من يمثلهم، وقبول ما جاء به مرتبط ببقاء الرابطة السياسية.
فإذا ما رفضت تلك الدولة بعض تعاليمه، أو بعض طلباته، يكون ذلك إساءة في العلاقات الدبلوماسية، وقد يؤدي إلى انقطاعها، فكذلك المسلم فإنه أعلن أنه لا يتأله إلا لله، فلا يعبد إلا الله، ومعنى أنه لا يعبد إلا الله: أنه يأخذ كل ما جاءه عن الله، ولن يأتيه مباشرة، وإنما يأتيه عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قدم أوراق اعتماده وهي تلك المعجزات، وخوارق العادات، وهذه المعجزة الكبرى، التي تساير الأيام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي كتاب الله تعالى.
وهذا لأننا إذا تطلعنا إلى حكمة التشريع فإن وجدناها وأصبناها فبها ونعمت، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:١١٤] ، وقال تعالى لإبراهيم: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:٢٦٠] ، وإذا لم نجدها فعلى المبدأ، وهو التسليم والامتثال والتصديق، فنعمل ولو لم تظهر لنا العلة.
وبعض الناس قد يعيب على من يحاول أن يتتبع حكمة التشريع، ويقول: ليس لكم دخل في هذا، فإذا أمر الله فعلى الرأس والعين.
ونقول: نعم، ولكن بعض الناس يتخذ خفاء العلة في التشريع طريقاً لتشكيك العوام، على ما سيأتينا -إن شاء الله- في أمر بول الصبي، فإنه في الشريعة يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية، فالوا: فرقت الشريعة بين متماثلين، وهذا تناقض! وكذلك كون المسلم يتوضأ من لحوم الإبل، ولا يتوضأ من لحوم الغنم، فإن هذا لحم وهذا لحم، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين.
فحينما تظهر الحكمة، ويبين الفقهاء الفرق بين هذين الذين يظهران متماثلين، وأنهما على خلاف ذلك، وأن هناك مغايرة تستوجب المغايرة في الحكم، حينئذٍ تسد الباب على أولئك الذين يعمدون إلى التشكيك في التشريع من باب التفريق بين المتماثلين.
وفي مسألتنا هذه عندنا حمار وحمار، وهذا أهلي وذاك وحشي، وهذا حرام وذاك حلال، فقالوا: هذا تفريق بين متماثلين من جنس واحد، فلماذا؟! وأقول: إذا جئنا إلى كتب الفقه قد لا نجد تصريحاً بذكر علة التفريق بين الطرفين، ولكن إذا رجعنا إلى بقية العلوم سنجد فرقاً، وقد كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: العلم يخدم بعضه بعضاً، أو كان يقول: العلوم أقران، أي: يقترن بعضها ببعض، يعني: هذا العلم يبين هذا العلم، وهذا العلم يستمد من ذاك العلم.
وقد أشار علماء التغذية وعلماء الوراثة إلى وجود فرق بين الحمر الأهلية والحمر الوحشية.
وجاء في القرآن الكريم ما يشير إلى بعض صفات الحمر الأهلية، عن طريق ضرب المثل لمن يحمل علماً ولا ينتفع به قال تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:٥] أي: لا يستفيد منها شيئاً.
وكما قيل: كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول أي أنها لا تستفيد منه.
ولكن الفرق بين الطرفين في هذا الجنس بالذات هو ما غلب على طبيعة الحمار الأهلي -بسبب تأهيله مع الناس- من غباوة وبلادة ولؤم وذلة، كما قيل: ولا يقيم على ذل يراد به الأذلان عير الحي والوتد فالعير يصبر على الذل، والوتد يثبت حتى تكسر رأسه وهو صابر، وقالوا: فيه غريزة اللؤم، والمزارعون يعرفون هذا، فالحمار إذا أتاه صبي صغير (استعصى) عليه، وإذا رأى كبيراً عرف الجد، فهذا لؤم.
أما المذلة فلأنه نشأ مكفي المئونة، فلا يعمل على تحصيل قوته، فهو عالة على غيره، بخلاف الحمار الوحشي، فهو مكلف بأن يحمي نفسه أولاً من الوحوش الكاسرة، ومكلف بأن يسعى لتحصيل قوته، ولا ينتظر أن يأتيه غيره بقوته، فانتفت عنه صفات الذلة والمهانة واللؤم، الموجودة في الحمار الأهلي.
ويذكر علماء الحيوان أن أنثى حمار الوحش حينما تلد ولدها -ويسمى (التولب) - تعض ساق رجله اليمنى الأمامية لتكسرها، ويبقى في كنّه إلى أن يجبر العظم في رجله، فيكون قد نمى وكبر، وتفعل هذا حماية له من الوحوش، قالوا: تكسير رجله ليبقى في كنّه ولا يخرج؛ لأنه كسير، فإذا ما برأ الكسر واستطاع الجري، يكون قد شب وكبر، فلو خرج وداهمه وحش يستطيع أن يفر منه، وهذه تربية عجيبة.