[شرح حديث: (المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل)]
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل- قال: تغتسل) متفق عليه.
زاد مسلم: (فقالت أم سلمة: وهل يكون هذا؟ قال: نعم.
فمن أين يكون الشبه؟) ] أنس رضي الله تعالى عنه اختصر الحديث، ومن هي المرأة؟
أم سليم بنت أبي طلحة، وكانت أم سليم وأبو طلحة بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالأهل، وكان كثيراً ما يرتاد بيتها، وقال في بعض مجيئه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وأبو عمير أخو أنس، فكان الرسول يغشاهم بكثرة، ولهم أخبار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أم سليم تصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، وفي حنين جاء أبو طلحة وقال: (يا رسول الله! أم سليم معها خنجر! قال: (ما تفعلين به يا أم سليم؟! قالت: إذا جاءني كافر أبعج به بطنه) ، فكانت لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأقول: لعله لتلك الصلة تجرأت وسألت مثل هذا السؤال، ولكن في روايات الحديث مقدمة لطيفة، وهي: أن أم سليم أتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن الله لا يستحي من الحق، -كأنها تعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأل في أمر يستوجب الحياء، ولكن الله لا يستحي من الحق، والله يبين كثيراً من الحقوق من هذا القبيل بالكناية اللطيفة- هل على المرأة من غسل إن هي رأت ما يرى الرجل في منامها؟ فقال: نعم، إذا رأت الماء) ، وكانت أم سلمة رضي الله تعالى عنها حاضرة، فقيل: إنها غطت وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل أنها قالت: أوتحتلم المرأة يا رسول الله؟! تستنكر سؤال أم سليم، والإنسان إذا لم يجرب الشيء أو لم يسمع به أو ما مر عليه يستنكره، كما جاء عن موسى عليه السلام كليم الله مع الخضر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:٦٨] ، شيء يجهله الإنسان قد لا يصبر عليه، فهي تعجبت وسألت، فبين لها صلى الله عليه وسلم فقال: (نعم، فمن أين يكون الشبه؟) أي شبه؟ شبه المولود من أبويه؛ لأن المولود لا يخرج عن دائرة الأبوين قرب أم بعد، ويقولون في علم الوراثة: إن الجنين إما أن يحمل خصائص الأبوين القريبين أو الأبوين البعيدين، وفي حديث صاحب الإبل لما رأى مغايرة في ولده، دخله الشك فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له (ألك إبل؟ قال: نعم.
قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها جمل أورق؟ قال: نعم.
قال: من أين جاء؟ قال: لعله نزعه عرق، فقال صلى الله عليه وسلم -في ولده الذي اشتبه عليه-: لعله أيضاً نزعه عرق) أي: من أجداده أو أعمامه أو أخواله.
وعلى هذا يقولون في علم الأجنة: إن الحيوان المنوي على هيئة الدبوس، ويحمل جينات في مذنبه - يعني: مثل الجيوب -، وكل جينة فيها خصائص الوراثة من أبوي الطفل: من لونه ومن طبعه، ومن شجاعته أو جبنه، ومن كرمه أو بخله، إلى آخره.
فينشأ الإنسان من هذه الجينات فيشابه أحد الأبوين.
ومتى يكون شبهاً لأبيه أو لأمه؟ في الحديث: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد الأب، يعني: حسب كثرة ماء الأبوين، والواقع: أن هذا كما يقولون من علم التشريح وعلم الأجنة، وهذه مجالات علمية حديثة لم تكتشف إلا متأخرة، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما تكلم في ذلك لم يدخل مختبراً ولم يدخل معملاً، ولم يجر تجارب، وإنما كان ذلك وحي من الله، لا كما يقول بعض المتأخرين: إنها اجتهاديات منه صلى الله عليه وسلم لا تصدق.
نقول: لا، الاجتهاديات في أمور الدنيا، أما الإخبار فهذا وحي، وقد جاء مما يكون فيه الاجتهاد لما قال لهم: (علام تؤبرون النخل؟ قالوا: إذا لم نؤبره يشيص، فقال: إن كان الله كاتب لكم شيئاً من الرزق يأتي، فتركوه فجاء شيصاً، فقالوا: تركنا فحصرتنا، قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم مني) ؛ لأن الدنيا مبناها على التجارب، وكما قال الغزالي رحمه الله: العلوم أربعة: علوم عقلية، وعلوم تجريبية، وعلوم إلهية، وعلوم ظنية.
فالعلوم التجريبية: هي الطب، ولهذا كل أسبوع بل كل يوم يأتينا في الطب جديد، نتيجة للتجارب، وتسمعون وتقرءون: اكتشف كذا بسبب إجراء العلماء تجربة كذا، ولهذا يكون الطبيب الذي يقتصر على حمل شهادته مجمداً، والطبيب الحقيقي هو الذي يتابع الدورات، ونتائج المؤتمرات، ونتائج الأبحاث؛ لأنها تتجدد بتجدد التجارب.
والأمور العقلية: مثل الرياضيات، فإنها لا تختلف أبداً! (١+١=٢، ٦-٥=١) ولكن إذا حصل خطأ فمن العقل الذي يجريها.
وأما الظنيات: فما يقال عن مواقع النجوم وعن سيرها وعن أفلاكها هذه مبنية على الظنيات، وقد تكون الظنيات تبلغ إلى حد العلم -كما هو موجود الآن- لوجود الاكتشافات الحديثة.
وأما الإلهيات: فطريقها التوقف والنقل الصحيح عن المعصوم، وكل ما يتعلق بالإلهيات من الأمور المغيبة؛ {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [التوبة:٩٤] ، {وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:٤] فما كان غيباً فلا يمكن معرفته لا بالتجربة ولا بالظن ولا بالعقل، ولكن بالنص الإلهي من الوحي، سواء كان من كتاب أو من سنة.
إذاً: الغيبيات مرجعها إلى الوحي المنزل الصادق المصدوق، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن الشبه يكون من ماء أحد الأبوين؛ إما الأم وإما الأب، وأما التذكير والتأنيث فله الآن مباحث عديدة، والله سبحانه وتعالى جعل في ماء الرجل خصائص التذكير والتأنيث، ولا دخل للمرأة في ذلك أبداً، جاء في آية النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم:٤٦] فالزوجان الذكر والأنثى من نطفة الرجل، وماء الرجل هو الذي يحدد الذكورة والأنوثة، والأم صالحة للجانبين كالأرض: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ.
} [البقرة:٢٢٣] والحرث: الأرض التي تزرع، ونوعية الزرع من الزارع؛ إن أراد قمحاً بذر قمحاً، وإن أراد فولاً بذر فولاً، فنوعية الزرع من الزارع وكل ذلك بإذن الله تعالى، والله تعالى أعلم.