[الذكر عند الخروج من الخلاء]
[وعنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك) أخرجه الخمسة، وصححه أبو حاتم والحاكم] .
انتهينا من الكيفيات والهيئات والحالات التي يكون عليها الإنسان في قضاء الحاجة، جاء هنا في هذا الحديث ما يقول إذا خرج من الخلاء.
قولها: (كان) يدل على الدوام والاستمرار.
(كان صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك) : تقدم لنا أنه إذا دخل الخلاء قال: (اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث، وإذا خرج قال: غفرانك) .
(غفرانك) منصوب على حذف العامل، بمعنى: أسألك غفرانك، أو على أنه مفعول مطلق والتقدير: اغفر غفرانك، فلأي معنى من المعاني طلب المغفرة، فإن طلب المغفرة أنما يكون عن ذنب قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:١٣٥] ، فأي ذنب فعله هنا حتى يقول: (غفرانك) .
يذهب العلماء إلى البحث عن الموجب لطلب الغفران في هذه الحالة، فبعضهم يقول: ربما لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على جميع أحيانه، وما كان يغفل عن ذكر الله أبداً، وإذا كان عامة المؤمنين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون.
إلخ، فالنبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وقد جاء في حقه: (تنام عيناي ولا ينام قلبي) فقالوا: وقت نزوله لقضاء حاجته لا يستطيع أن يذكر الله، فهو يتعطل عن ذكر الله مدة وجوده في بيت الخلاء، فإذا ما انتهى اعتبر امتناعه عن ذكر الله تلك الفترة كأنه ذنب وتقصير، فيطلب من الله الغفران عن هذا التقصير، فكأن المعنى: أننا أكلنا كثيراً واحتجنا إلى بيت الخلاء، فانشغلنا بالطعام والشراب، وتسببنا في ما يبعدنا عن ذكر الله.
وبعضهم يقول: إنما يقول: (غفرانك) لأنه كل إنسان حينما أنعم الله عليه بنعمة العافية، ورزقه الطعام والطيبات من الرزق، وأكل واستمتع وانتفع في بدنه، ثم إن هذا الخارج عبارة عن فاضل هذه النعمة بعد أن أخذ منها فائدتها واستفاد الجسم منها، ويسر الله خروج المؤذي منها، فإذاً: هذه نعم متوالية: نعمة العافية، ونعمة الطيب من الرزق، ونعمة الاستمتاع بالطيب الحلال، ثم نعمة وإخراج المؤذي من تلك النعمة وفضلاتها نعمة أخرى.
ولذا يقولون: إن بعض الملوك دخل عليه شخص من زهاد الدنيا وقال: ماذا تطلب؟ قال: وما الذي لديك؟ قال: ما تريده.
قال: كل ما عندك لا يساوي بولة ولا كأس ماء.
قال: كيف هذا؟ قال: إذا كنت في فلاة ونفد ماؤك وأشرفت على الموت وتطلب كأس ماء، أتشتريه بالملك أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي إلا كأس ماء، وإذا شربتها واحتبس عليك البول، وطلبت إخراجه، أتدفع ملكك في إخراج هذا البول أو لا؟ قال: نعم.
قال: إذاً: ملكك لا يساوي كأس ماء تشربها ولا بوله تخرجها.
ومن هنا -أيها الإخوة- كان من نعم الله على الإنسان أن متعه بالصحة وأنعم عليه بطيبات الرزق، واستمتع بطعمها، واستفاد بما أودعت من فوائد في جسمه، ثم أنعم الله عليه بإخراجها.
والله -يا إخوان- لقد رأيت إنساناً في حوالي سن الأربعين منذ أكثر من أربعين سنة يدور في الشوارع ويصيح بسبب إمساك عنده، وعجز الناس عن أن يسعفوه بشيء، فإذا حبس في الإنسان فضلات الطعام فهذه مصيبة.
قال العلماء: فالنبي صلى الله عليه وسلم استشعر نعمة الله عليه بالصحة، وبالرزق الطيب، وبالاستفادة من هذا الرزق، ثم يسر عليه خروج هذا المؤذي، فكأنه يقول: لا يستطيع الإنسان أن يشكرها لله سبحانه وتعالى، فيستغفر على التقصير من أنه لم يقدم لله من العبادات ومن الذكر ما يعادل تلك النعم المتعددة.
إذاً (غفرانك) إما لأنه منع من ذكر الله في تلك الفترة، أو لأنه استشعر نعم الله عليه، واستشعر التقصير في شكره عليها، فيطلب الغفران لذلك.
وهذا تنبيه لنا على أن نستشعر نعم الله علينا، وأن نسأل الله دائماً وأبداً أن يوزعنا شكر النعمة ولو كانت شربة ماء، ولو كانت خروج فضلات من جسمه؛ لأن هذا سواء كان في الإدخال أو في الإخراج فهي نعمة من الله سبحانه وتعالى.