[شرح حديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة)]
قال رحمه الله: [وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت) ، رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:١]] .
هذا مما يدل على فضل هذه الآية الكريمة، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أُبي بن كعب: (أي آية أعظم في كتاب الله؟ قال: آية الكرسي، قال: ليهنهك العلم) ، وقالوا: آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفات المولى سبحانه وتعالى، فموضوعها ذات المولى عز وجل، كما أن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} موضوعها ذات الله سبحانه وتعالى، وهي تعدل ثلث القرآن تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ، هذا أول التوحيد {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، أي: القائم على كل شيء، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، السِنة: النعاس، والنوم الاستغراق؛ فسبحانه لا ينام، وفي الأثر: أن نبي الله موسى قال: (يا رب! أنت لا تنام؟ قال: لا أنام يا موسى! ولا ينبغي لي أن أنام، أتريد أن تُدرك ذلك يا موسى؟ قال: نعم، قال: خذ قدحاً من الماء وأمسكه في يدك، فأخذ قدحاً من الماء وأمسكه بيده، فأرسل الله عليه النعاس فسقط القدح من يده ثم أيقظه، قال: يا موسى! أين القدح؟ قال: سقط عندما نمت؟ قال: وهكذا الكون) ، سبحان الله العظيم! عظمة المولى سبحانه في كل صفة وفي كل آية، وهذا كما يقال: تقريب للمعنى، فالكون بيده سبحانه {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس:٨٣] ، لم يقل: ملك، قال: ملكوت، يعني في الأمور الحسية والمعنوية، ولو نظرت لرأيت شيئاً فوق الإدراك، أنت بنفسك لو وكلت إلى ذاتك ما استطعت أن تعيش، كما يقولون: الإنسان فيه عدة عوالم.
إذا جئت إلى حواسك: اليد تنام وتهمد، والعين تنام وتغمض، الأذن لا تنام؛ لأنها على استعداد لتلقي السمع في أي لحظة، ولكن هل الكبد ينام؟ لا ينام؛ لأنه يفرز دائماً ويغذي هذا الجسم النائم، هل الكلى تنام؟ لو نامت تعطل الجسم، فشل كلوي كما يقولون -نسأل الله السلامة- أو تليف كبدي؛ هل القلب ينام؟ من الذي يُنظم دقات قلب المرء في صدره؟ لو وكل إليك أنت لكي تراقب قلبك.
شغلته وأنت صاحي، وبعد ذلك جاءك النوم، هل تقول له: نم حتى أصحو؟ إذا نام نمت النومة الأخيرة، إذاً: كل حيوان لا يستطيع أن يؤمن حياته لو وكلت إليه.
هذا القلب الذي ينبض منذ مائة أو تسعين أو ثمانين سنة، وفي كل دقيقة ستين مرة في الوضع العادي، الله أكبر! وهو قلب واحد أو عالم واحد، البعوضة عندها قلب ينبض، حتى أصغر الحيوانات إلا الجراثيم، الله أعلم بتكوينها لا نعلم عنها، ولكن نجد العصفور الصغير ينبض قلبه في الدقيقة مائتي نبضة، الفيل ينبض قلبه في الدقيقة عشرين مرة، وكلما كبر الجسم وتضخم كلما قلّت الدقات؛ لأن القلب يصبح كبيراً، ومثال ذلك تجربة في يدك: انظر إلى الساعة، الساعة الصغيرة التي قطرها (١ سم) ، والساعة الكبيرة التي قطرها (٥٠ سم) ، هل توجد واحدة تزيد في الأربعة والعشرين ساعة أو تنقص أم أن كلها سواء؟ كلها سواء، خذ واحدة صغيرة في يدك وأخرى كبيرة على الجدار، تجد الصغيرة سريعة الضربات، وأما الكبيرة على مهلها، لماذا؟ لأن الواحدة بالتأني تقطع مسافة مثل هذه.
إذاً: الفيل له دقات، والعصفور الصغير له دقات، والحيتان كذلك في البحر، من الذي يُنظم كل هذا؟ المولى سبحانه فضلاً عن أمور أخرى.
انظر إلى عالم النبات: طلعت الشجرة جاءت الزهرة، من أين جاءت الثمرة وتنوعت؟ بستان واحد وحوض واحد وجدول ماء واحد من بئر واحد أو من سماء واحدة، هذه تثمر أصفر، وهذه أحمر، وهذه أزهار خضراء وصفراء وحمراء.
إذا جئت إلى الإناث في العالم: كيف تحمل الأنثى من كل نوع؟ الإنسان الحيوان الطيور الـ الـ إلى آخره، وكيف ينشأ ويتطور هذا الحمل الجنين في داخل ظلمات بعضها فوق بعض، ظلمات ثلاث، من الذي شق العينين والأنف والفم؟ سبحان الله، من الذي أنبت هذا كله في تلك الظلمة؟ أصله من تراب، ثم جاءت النطفة وصارت علقة ثم مضغة ثم عظاماً، ثم كسيت العظام لحماً، والتخطيط هذا والتنظيم هذا، والشبه الذي يعطى كل فرد ولا يوجد له شبه يطابقه مائة في المائة في العالم، حتى التوأمين اللذين جاءا من بطن واحدة مختلفين، ولابد من الاختلاف، بصمات الأصابع مئات الملايين في العالم ليس هناك بصمة تعادل بصمة ثانية، من الذي غير في هذا؟ وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذا: إذا أردت أن تدرك عظمة الخالق سبحانه: قف عند جمرة العقبة وانظر إلى الوجوه أمامك؛ لن تجد وجهين متطابقين في الصورة قط، وهكذا العالم كله.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ} ، هو في ذاته قيوم على العالمين، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، القيومة له سبحانه وحده {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ} [البقرة:٢٥٥] ، وماذا الذي في السماوات؟ يعجز البشر كله أن يُدرك ما في السماء الأولى فقط، بل ما دونها من أبراج وأفلاك، والمجرة يقولون: فيها ملايين النجوم، والله لا نستطيع أن نقول: لا، لو قلنا: لا، يقولون: اذهبوا عدوا، ولكن يتفق الفريقان على كثرة النجوم فيها، وعلى أضوائها، وأنه يصل ضوء بعض النجوم في كذا سنة ضوئية، الإنسان فقط يترك التفكير في هذا، له ما في السماوات عوالم لا نعلمها ولا ندركها إلا ما جاءنا فيها الخبر، ولولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بالكتاب وبالسنة، وذهب بنفسه ونظر وأتى وأخبرنا، فيخبرنا عن مشاهدته، السماء الدنيا، ويطرق الباب الثانية وو إلى آخره، إلى سدرة المنتهى.
إذاً: له ما في السماوات من تكوين وأوامر.
إلى آخره.
{وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٥٥] ، وإن كنا قريبين منها، وهي أقرب لنا من السماء لكننا نعجز أن نُكيف ما في الأرض، فماذا في الأرض؟ عوالم الحيوانات والنباتات والجبال والطيور والزواحف وو إلى آخره، كل ذلك خاضع لسلطانه سبحانه، فإذا كان الأمر كذلك فـ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] ، الشفاعة هي: أن تتقدم وتطلب من المشفوع إليه مصلحة للمشفوع فيه، وهل أحد له سلطان أو له ملك أو أي شيء في السماوات أو في الأرض؟ لا شيء إلا بإذن الله سبحانه.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي} انظر {مَنْ ذَا الَّذِي} لم يقل: من الذي، من الذي يرفع رأسه؟ من يقول: أنا؟ من يدعي شيئاً في هذا العالم؟ لا أحد، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} ، قد تشفع عند أخيك أو زميلك أو قريبك أو أميرك أو أو، لك حق في أن تشفع، وله حق في أن يقبل أو يرد، وقد يضطر إلى قبول شفاعتك اضطراراً؛ لأنه يخشى إن رد شفاعتك حجبت مصلحته أو دبّرت مكيدة له، ولكن المولى له ما في السماوات وما في الأرض، ولا يُقاس عليه، وإمعاناً بعد ذلك قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:٢٥٥] .
القدرة الإلهية للعلم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:٢٥٥] ؛ فهو يحيط بهم علماً وهم لا يحيطون، ولكن قد يدركون البعض، وفرق بين الإحاطة والإدراك، فمن الإحاطة الحائط المبني حول البستان، فإنه يشمله جميعاً، فالإحاطة بالشيء إدراكه كاملاً كإحاطة الجدار بالبستان، فالعالم لا يحيطون بشيء من علم الله، ولكن الله سبحانه يُحيط بعلمهم.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} [البقرة:٢٥٥] ، الكرسي جاءت فيه أخبار عديدة، منهم من يقول: الكرسي العلم، وهذا روي عن ابن عباس، ولكن الجمهور على ما في الحديث الصحيح: أن الكرسي بين يدي العرش، وجاء الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون في الكرسي إلا كدراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة) ؛ فالكرسي مخلوق مادي له سعته، ولو أن السماوات السبع والأرضون السبع وضعت في الكرسي ما كانت إلا كأن تأخذ حلقة وتلقي بها في الربع الخالي، ما تكون نسبة هذه في الربع الخالي؟ إذاً: لا يعلم قدره إلا الله، وما الكرسي هذا بهذه السعة في العرش إلا كدراهم (وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم) .
أقول يا إخوان: إن هذه النصوص بهذه المضاعفات لا ولن توجد قوة على وجه الأرض حسابية الآن تعطينا النتيجة ولا الجواب عن سعتها، ولا ينبغي للإنسان مهما أوتي من ذكاء حرص على العقيدة وسلامتها أن يخوض خوضاً بعيداً، ويكفي أن يسمع هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتصور التصور الإجمالي، ويكف عما وراء ذلك.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} وسعها على أي حجم وأي مقدار؟ جاء في الحديث بأن السماوات السبع سمكها مسيرة خمسمائة عام هي والأرض، سبحان الله! سبع سماوات، من الذي يتصور هذا الجرم؟! أما الأرض فهي مثل البيضة تحت القبة، فكم يكون مساحة هذا الكرسي؟ لا نستطيع أن نقول شيئاً، ولكن يكفينا النص القرآني الكريم: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، وهناك ناحية بيانية لطيفة، لم يقل: (وسع الكرسي) ولكن جاء بالإضافة إلى الله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} ، مجرد نسبة وإضافة الكرسي إلى الله تُعطيه عظمة أكثر.
{وَلا يَئُودُهُ} [البقرة:٢٥٥] ولا يثقله، ولا يشق عليه، {حِفْظُهُمَا} [البقرة:٢٥٥] (ما) ألف تثنية راجعة فيها لـ: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:٢٥٥] ، ولا يثقله ولا يشغله حف