ثم وجدنا بعد ذلك هذا التطبيق العملي من الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لأنه بعد تلك السنة التي كانت فيها حجة الوداع، والتي ودع النبي صلى الله عليه وسلم فيها أصحابه، رجع إلى المدينة ولقي الرفيق الأعلى، ولما استخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه وحج بالناس، جاء مفرداً الحج، ولم يتحلل بعد أن سعى بين الصفا والمروة كما نبه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أن ذاك التحلل خاص بذاك الركب، وخاص برسول الله ومن معه لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، فهل يا ترى كان أبو بكر غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم:(لو استقبلت من أمري ما استدبرت) ؟ الجواب: لم يكن غائباً، بل كان مع رسول الله، وكانت زاملتهما واحدة، بمعنى أن البعير الذي كان عليه الزاد لـ أبي بكر ولرسول الله كان واحداً.
إذاً: هما لم يفترقا قط، بل كان حاضراً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد سعى معه بين الصفا والمروة، وهو أول من يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم تمنيه:(لو استقبلت ... ) ، (لو لم أسق) ، كل ذلك قد سمعه ووعاه وشاهده، وإذا به في خلافته يحج مفرداً، فهل كان على خلاف رسول الله؟ حاشا وكلا، وهل نحن اليوم بعد أربعة عشر قرناً أشد حباً واتباعاً لرسول الله من أبي بكر رضي الله تعالى عنه؟ حاشا وكلا.
ثم جاء بعد ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، وامتدت خلافته عشر سنوات فكان يأتي في خلافته ويحج بالناس مفرداً، ولم يكن أيضاً غائباً عن قوله صلى الله عليه وسلم:(لو استقبلت ... ) ولم يكن غائباً أيضاً عن قوله: (لو لم أسق الهدي لجعلتها عمرة) ولكن علم أن ذلك كان لغرض وقد حصل ذلك الغرض في تلك السنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل جاء عن أمير المؤمنين عمر ما هو أشد من ذلك، فقد كان ينهى الناس أن يحجوا متمتعين بالعمرة، الذي يقول عنه بعض الحنابلة: إنه أولى من الأنساك الأخرى: القران والإفراد، عمر يقول: لا يأت أحد متمتعاً بالعمرة فيتحلل ثم يحج من عامه، قالوا: يا أمير المؤمنين! لماذا تنهى والرسول قد فعل؟ أي: فعله أصحابه معه وهو الذي أمرهم أن يتحللوا؟ قال: أردت أن يكثر المجيء من الحجيج إلى البيت، أي: يأتي الواحد بعمرة في سفرة ويأتي بحج في سفرة أخرى.
إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه لم يفسخ الحج في عمرة فحسب، بل نهى عن العمرة، وعن التمتع في أشهر الحج.
وعثمان رضي الله تعالى عنه لما ولي كان يحج بالناس أيضاً مفرداً، ثم بعد ذلك نهى عن القران بين الحج والعمرة، فسمع بذلك علي رضي الله تعالى عنه، وهو ينجع لبكرات له دقيقاً وحبقاً، والحبق هو ورق الشجر، وصاحب الإبل إذا جاء إلى شجرة مورقة وأغصانها مرتفعة يأخذ عصا ويضرب بها الأغصان، فيسقط الورق على الأرض، فإما أن تأكله الإبل بنفسها وإما أن يجمعه ويخلطه مع الدقيق، ثم يعطيه لها، يقول راوي الحديث: فلا أنسى أثر العجين على يديه، فذهب علي وهو بتلك الحالة، وعجين الحبق على يديه لم يغسله، ودخل على عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال: أأنت تنهى عن القران -أي: بين العمرة والحج-؟ قال: نعم، قال: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: شيء رأيته وأردت أن يكثر مجيء الناس إلى البيت، مثل رأي عمر رضي الله تعالى عنه؛ لأن القارن بين الحج والعمرة سيأتي لهما مرة واحدة، فإذا ما فرق بينهما على ما رآه عمر فسيأتي معتمراً ويرجع ثم يأتي حاجاً ويرجع.
فقال علي رضي الله تعالى عنه: لبيك اللهم! حجاً وعمرة معاً، وكان علي مفرداً، لكنه أهل بالعمرة مع الحج في ذلك الوقت بين يدي عثمان، ليعلن جواز القران بين الحج والعمرة، كما كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عثمان لـ علي: أردت مخالفتي يا علي؟! قال: لم أرد مخالفتك، ولكنه عمل عملناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.