[حكم إقامة الحدود في المساجد]
قال رحمه الله تعالى: [وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها) رواه أحمد وأبو داود بسند ضعيف] .
إقامة الحدود من أعظم شعائر الله، وفي بعض الآثار: (إقامة حد في الأرض خير من مطر عشرين -أو ستين- عاماً) ، فإقامة الحدود منزل للبركة والرحمة؛ لأنه تطبيق لشرع الله، والحدود -كما يقولون- منها ما هو محض حق لله، ومنها ما هو محض حق للعبد، ومنها ما هو مشترك بين العبد وربه، كما في السرقة وفي الزنا وفي القذف، وفي شرب الخمر، فكل ذلك عقوبته حد، سواءٌ أكانت الحدود فيها جلداً، كالخمر، وزنا البكر، أو إتلافاً، كالرجم والقطع والقود، والقود حق للإنسان، بمعنى أنه إذا اعتدى إنسان على إنسان -سواءٌ في جراح، أم في نفس- فإن من حق المجني عليه أن يقتاد، أو يقتص من الجاني، وسواء في العضو، أم في النفس، فالحدود على ذاك التقسيم جلد، أو إتلاف، ومهما كانت فلا يقام الحد بالجلد أو بالقطع في المسجد؛ لأنه قد يحدث من المجني عليه، أو ممن يقام عليه الحد -سواءٌ بالجلد أم القطع- ما لا يتناسب مع المسجد، فإنما تقام الحدود على أبواب المساجد، في موضع التجمعات، لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٢] .
وكذلك القود، والقود في النفس بالقصاص، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:١٧٩] أما في الجراح فيتفق العلماء على أن القود في الجراح يشترط فيه أن يكون الجرح والاعتداء في مفصل؛ لأن القود في المفصل ممكن، أما إذا كان الجرح في الفخذ -مثلاً- أو في وسط اليد فإنه لا يتأتى فيه قود مماثل؛ لأن القصاص معناه أن تأخذ بحقك دون زيادة أو نقص، كما إذا قصصت الورقة أو الثوب بالمقص، فإن طرفي المقصوص متساويان، ولو مال المقص يميناً أو يساراً لظهر هذا الأثر في جانبي المقصوص، فيكون القص متعادلاً تماماً، سواءٌ في الاستقامة، أم في الأخذ يميناً أو يساراً، ومن هنا إذا كان الجرح في مفصل -كمرفق اليد والعضد والركبة والحقو- فهنا يكون القصاص.
أما إذا كان الجرح، أو الكسر في غير مفصل، فلا يمكن أبداً أن يقتص بكسر، نظير كسر في وسط العظام؛ لأن الكسر الأول قد أخذ شكلاً معيناً، والكسر الثاني -كسر القصاص- لا يمكن أن نضمن أنه بحدوده، وأبعاده، وأجزائه، يكون مماثلاً للكسر الذي سبق، فهنا لا يكون القصاص، وتكون الدية، دية الجرح، أو دية كسر العظم، وهذه كلها مقدرة في كتب الفقه.
فما كان حقاً لله، من الحدود، فلا يقام في المسجد، وكذلك أيضاً ما كان حقاً للآدمين، من قود، وقصاص، فلا يستوفى في المسجد، إنما يكون في الخارج؛ لأنه في الجلد، ربما يحدث من المجلود، في حالة شدة الجلد، ما يخشى منه على المسجد، وكذلك عند القطع، حيث يكون هناك الدم ويتناثر، فلا يناسب أن يكون في المسجد.
وإذا قلنا: إن المسجد موضع الرحمة، وتنزل الرحمات، فلا يمكن أن نجعله موضع النقمة، وموضع التعذيب، وإن كان حداً من حدود الله؛ لكن فيه التعذيب وفيه الآلام، فينبغي أن يكون بعيداً عن حدود المسجد، ويبقى المسجد لطلب الرحمة والمغفرة.
فنهى صلى الله عليه وسلم أن تقام الحدود أو يقتاد في المسجد.
وأما القصاص في مكة فبعضهم يقول: لا يقام حد القصاص في حرم مكة، وحدود الحرم جميعاً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧] ويقولون: نتركه حتى يخرج خارج الحرم، وهناك نقتص منه ونقتله، وإذا لم يخرج قالوا: يمنع من البيع، والشراء، والمعاطاة، ولا يعطى شيئاً حتى يضيق من نفسه، ويخرج يطلب لقمة العيش، فهناك نقتص منه.
والبعض الآخر يقول: قال تعالى: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة:١٩١] وإذا اعتدى إنسان وقتل إنساناً في الحرم فيكون القاتل هو الذي انتهك حرمة الحرم فنقتله فيه، أما إذا جنى خارج الحرم ودخل لاجئاً إلى الحرم فلا نقيم عليه الحد في الحرم؛ لأنه لم ينتهك حرمة الحرم، بل لجأ إليه يحتمي فيه، وهنا يقول تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧] وحرم مكة له أحكامه الخاصة، ويهمنا هنا فيما يتعلق بعموم المساجد في الدنيا وأنه لا تقام فيها الحدود، ولا يقاد فيها بين الناس.
والله تعالى أعلم.