[سبب تسمية بعض الأسطوانات التي في المسجد النبوي]
في حديث عائشة: (إن كان صلى الله عليه وسلم ليدخل عليَّ رأسه فأرجله وأنا حائض) ، هذه الصورة لا تتأتى إلا إذا كان السرير مقابلاً لباب الحجرة، وباب الحجرة موجود إلى الآن مشرع على الروضة، ولا يمكن أن يكون السرير عند المنبر ويدخل رأسه إلى الحجرة؛ لأن بينهما مسافة بعيدة، ولا يمكن أيضاً أن يكون مستطيلاً شمالاً وجنوباً؛ لأنه إذا كان شمالاً وجنوباً فلا يتأتى أن يدخل رأسه، إذاًَ: السرير كان ممتداً شرقاً وغرباً ومقابلاً لباب الحجرة.
وجاء في بعض الروايات عند مالك في الموطأ أن نافعاً قال: لقد أخبرني ابن عمر وقال: إن شئت أريتك موضع اعتكافه، يعني: إذا أحببت أن أريك أين كان محل السرير أريتك.
وجاءت رواية أخرى صريحة: أن سريره كان خلف أسطوانة التوبة، وأسطوانة التوبة موجودة إلى الآن في الروضة بعد الحجرة بأسطوانة واحدة، وسميت بأسطوانة التوبة لقصة أبي لبابة حينما ربط نفسه فيها حتى نزلت توبته، وفي القصة أن بني قريظة جاءوا إليه ونادوه من بعيد: ماذا ترى أننزل على حكم محمد؟ فقال بأعلى صوته: نعم، وأشار بيده إلى رقبته، أي: نعم، وإن نزلتم فسيذبحكم، ففي هذا ما فيه من الأمر وكان أبو لبابة يقول: والله! ما زالت قدماي من موضعهما حتى أيقنت أني خنت الله ورسوله، بمعنى: أني قلت: نعم، ولكن أخفيت شيئاً خلاف ذلك، فانطلق من هناك ولم يرجع إلى رسول الله ليخبره حتى جاء إلى المسجد وربط نفسه في السارية، وأقسم ألا يفك وثاقه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبطأ على رسول الله سأل عنه، فأخبروه، فقال: أما وقد فعل فليبق في مكانه، ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومكث ما شاء الله أن يمكث نزلت توبته ليلاً وكان صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة، فقالت: ألا أبشره يا رسول الله؟! قال: إن شئتِ، فنادت: إن الله قد تاب على أبي لبابة، فبادر الناس ليحلوه من السارية فقال: لا والله! حتى يخرج رسول الله ويفكني بيده الشريفة، فسميت هذه الأسطوانة بأسطوانة التوبة.
وتجدون في أسطوانات الروضة لوحات وعناويين: أسطوانة عائشة، أسطوانة السرير، أسطوانة الحرس، الأسطوانة المخلقة، أسطوانة التوبة أو أسطوانة أبي لبابة، كل ذلك مكتوب بلوحات في الأسطوانات الموجودة في الروضة، ولهذا يقول عنها علماء تاريخ المسجد النبوي: الأسطوانات ذات التاريخ في المسجد النبوي.
وكان بعض السلف يتحرى الصلاة عندها، وبعض الناس ينتقد على ذلك ويقول: في هذا تتبع بقاع لا حاجة لها، وجاء عن ابن الزبير وعن غيره: أنهم كانوا يسألون عن الأسطوانات، ودخل على عائشة وهي خالته فسألها، فقال أصحابه: انتظروا حتى يخرج وانظروا أين يصلي؟ فلابد أن تكون قد أخبرته بها، فلما خرج صلى عندها فعرفوها.
وهذه الأسطوانات ليس معنى إبقائها على تاريخها وأحداثها أن فيه تقديساً لجماد السارية ولا لجماد الأسطوانة، ولكنه عنوان وتذكير للعالم الإسلامي لما شهدت من تلك الأحداث، فمثلاً أسطوانة السرير إذا دخل الإنسان المسجد وهو على طوله في التوسعة الأخيرة الثانية وقد أصبح المسجد مائة ذراع في مائة ذراع فلن يعرفها إلا إذا كان مكتوباً عليها.
وقول عائشة: (وكان يدني إليَّ رأسه وأنا في حجرتي) ، أين كان السرير؟ الجواب: كان في الروضة في الصفوف الأول، ولكنه كان لا يمنع المصلين من الصلاة، وإذا كان لا يمنع المصلين من الصلاة فلا شيء في ذلك.
وأبو لبابة لما ربط نفسه ويُعرف أين مكانه الذي ربط فيه نفسه؟ وتأتي السيرة ويأتي التاريخ يذكر ذلك، عندها يتذكر الإنسان ويحذر أن يخون الله ورسوله، تأتي كذلك أسطوانة ثمامة بن أثال الذي جاء من بني حنيفة: (لما أخذ أسيراً وكان سيد قومه وربط بالمسجد وهو مشرك، وكان يؤتى كل ليلة بحلب سبع نياق أو سبع شياه فيشربها، ومكث ثلاثة أيام والنبي صلى الله عليه وسلم يمر عليه ويقول له: (كيف بك يا ثمامة؟! فيقول وهو مشدود في السارية: يا محمد! إن ترد مالاً أعطيتك فأرضيتك، وإن تمنن -بالعتق- تمنن على كريم وإن تقتل تقتل ذا دم -أي: أن قومي سيطالبون بدمي- فتركه ثلاثة أيام ثم مر عليه فقال: أطلقوا ثمامة، فلما أطلق سأل: ماذا يفعل من يريد أن يدخل في دينكم؟ قالوا: يغتسل ويجلس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وينطق بشهادة الحق، فسأل عن أقرب ماء وكان بيرحاء، فذهب واغتسل ثم جاء ودخل المسجد، وبعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الظهر جلس إليه ونطق بالشهادتين، فقيل له: لماذا لم تسلم قبل وأنت في الوثاق ثلاثة أيام؟ قال: خشيت أن تقولوا: أسلم خشية السيف، ثم قال: يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا في طريقي إلى مكة معتمراً، قال: اذهب فاعتمر) ، وذهب وكانت له قصة مع أهل مكة.
والأسطوانة المخلقة وتسمى أسطوانة الوفود؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس إليها ويستقبل عندها الوفود، وليس في معرفة هذه الأسطوانات ما يعاب، وليس في تتبع ذلك ابتداع، كما يظنه البعض، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.