للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرح حديث: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)]

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه] .

: (يا نساء المؤمنات! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) الفرسن: ما بين الظلفين، والبعض يقول: رجل الغنمة، والآن هي تباع في السوق الواحدة بريالين أو بريال لكنها مستوية كاملة، فإذا كنت تريدين الإهداء إلى جارتك وما عندك شيء إلا فرسن شاة فلا تحتقرينه، وفي بعض الروايات: (ولو ظلفأً محرقاً) الذي هو مقدم الشاة تحرقه من أجل الصوف الذي فيه أو الظلف الغروي الموجود على الحافر ينزل ويبقى اللحم، وهذه من محقرات الأمور، يبين صلى الله عليه وسلم أن على الجارة أن لا تحتقر شيئاً تقدمه لجارتها.

معناه: أنت أيها الإنسان! إذا أردت أن تهدي لا تحتقر ما عندك، وقدم ما بيدك فإن الكل صغيراً كان أو كبيراً داخل في جنس الهدية.

ونحن نعلم قصة عائشة في حبة العنب، مرت امرأة مسكينة وهي تأكل حبات عنب، فأعطتها حبة، فأخذتها وظلت تطالع فيها تتعجب من الموازين المادية، فقالت: أتعجبين من هذا! كم فيها من ذرة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه} [الزلزلة:٧] وكذلك التمرة التي شقتها الأم وأعطتها لطفلتيها، ويقول صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) لا أحد يتصدق بتمرة إلا إذا كان ما عنده شيء.

إذاً: لا يحتقر الإنسان شيئاً يقدمه لصديقه، وبالتالي لا يحتقرن الصديق شيئاً أهدي إليه من صديقه، طالت غيبته ثم جاء على عود أراك، فلا تنظر إلى هذا العود، بل انظر إلى الدوافع، حينما أتى إلى بائع الأراك واشترى باسمك أليست هذه تكفيك؟! كونه عود صغير أو كبير، هذا شيء آخر.

إذاً: لا تحقرن جارة لجارتها، ولا جارة من جارتها، ولذا جاء في الحديث: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) تطبخين دجاجة أو وصلة لحم املئي القدر ووزعي على الجيران مرقاً.

على كل: كلما كانت الحياة مبسطة كانت أمورها بسيطة، وكنا نحن من قبل نقدم صحناً أو صحنين ويأكل الإنسان ويشبع والحمد لله، واليوم الحمد لله من أصناف الطعام لا يعلمها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، الموالح أصناف والحمضيات أصناف، والخضروات أصناف، وكل هذا، أصبح الإنسان يقدم فخذاً من حيوان أو شاة أو غيرها، ويستقلها! ولكن حينما كانوا يبحثون عن التمرة فلا يجدونها، لو أهدي لأحدهم فرسن شاة لفرح به، وليس المقصود فرسن الشاة بعينه، ولكنه ضرب المثل فلا تحتقر من المعروف شيئاً بأن تقدمه لأخيك.

يقولون: إن بعض الأمراء أرسل إلى بعض التجار لكي يستلف منه مبلغاً، فذهب إليه الرسول، فقال: نعم، لنذهب إلى البيت فهذا التاجر المطلوب منه مشى ووجد جلدة شاة مرمية في الأرض على طريقه، فأخذها ونتف منها الصوف وهو ماشٍ ثم أخذ الجلد في جيبه، فجعل يغزل هذا الصوف الذي نتفه حتى صنع منه خيطاً طويلاً ووضعه في جيبه، والرسول يتعجب، هذا الذي بعثني إليه الأمير بكذا كذا دينار وهو يلتقط هذه الأشياء في الطريق؟! فلما وصلا البيت قال: أمعك كيس؟ قال: بلى، قال: هاته، فنظر فإذا الكيس مخروق، فأخذ تلك الجلدة ووضعها على هذا الخرق، وأخذ ذلك الصوف الذي غزله وأتى بالمسلة وخيطها، فعجبت حينئذ كيف جمع المال، استفاد منها.

فهكذا الإنسان لا يحتقر الشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم لما وجد شاة ميمونة يجرونها قال: (هلا انتفعتم بإهابها) فلابد من الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه.

وفي خلافة عمر رضي الله عنه أقام مأدبة للناس في المسجد بطعام من عنده، وأثناء تناولهم للطعام، جاء مرسول من كردستان أو كذا، فجاء وقال: أين أمير المؤمنين عمر؟ قالوا: هذا هو، جاءه فسأله عن البلاد، قال: أرضهم وعرة وليست بسهلة، ماؤها وشل، وعدوها بطل، قال: أنا أسألك أم تسجع لي؟ قال: أخبرني عنها، قال له بأن الله فتحها على المسلمين وأرسلوني بصفاياها إليك - الصفي والمرباع يكون لرئيس القبيلة أو لقائد الجيش، أو له أن يصطفي من عموم الغنيمة ما طاب له دون القسمة، فأرسلوا له ببعض التحف من الغنائم، فقال: أمسكه معك، وبعد العصر نلتقي، ثم قال له: اجلس كل مع الناس، قال: أكلت، ووالله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما أمامهم، ثم قال: هلم إلى البيت، فذهب ونادى زوجه أن تأتيه بغدائه، ما كان أكل مع الناس، فجاءته بطعام، فقال له: اجلس فكل، فقال: والله لطعامي الذي في مزودتي للسفر خير مما قدم إليك.

ماذا نقول في هذا المستوى؟ إنسان مسافر، والزاد الذي في المزودة للسفر أفضل من الطعام الذي يقدم في بيت أمير المؤمنين، وهو صانع مأدبة للناس في المسجد.

إذاً: تفاوت في الحياة في هذه الأمور، قد تجعل في النظرة للهدية فوارق، ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدعاة لعدم تقدير الهدية، ولا يكون مدعاة لردها لحقارتها، بل يجب أن تكون النفس عالية، والنظر إلى مهديها وظروف الإهداء، وأن يكون لها وقع عند صاحبها.

ويذكر مالك في الموطأ: أنه كانت امرأة في ذي الحليفة، كل يوم أربعاء تأخذ السُلت وتطبخه في قدر وتأتي بالشعير وتخبزه لطلبة العلم.

يقول: كنا نعد لذلك اليوم، تعد لماذا؟ أهي وليمة الملك؟ السُلت أقل من الشعير، وخبز من الشعير، يوضع عليه قليل من هذا السلت، ويقول: كنا نعد لهذا اليوم، ولكنهم كانوا راضين بحياتهم ومقتنعين.

فهذه بعض نماذج وأمثلة لما كان عليه بعض السلف، وفي بعض الحالات لعلنا نخفف من هذا التغالي والتنافس في أنواع الموائد والأطعمة، ونسأل الله أن يرزقنا شكر النعمة، وأن يحفظها علينا، وأن يديمها لنا، إنه سميع مجيب!